أخطر ما يتهدّد الدولة اليوم بالفعل… اغتيال العدالة

تعدّدت أنشطة رئيس الجمهورية أوّل أمس الجمعة 15 أفريل 2022، ليلة منتصف رمضان، وهو أمر محمود، حيث استقبل محافظ البنك المركزي وشدّد أمامه وفق الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على : ضرورة الاهتمام بالجوانب الاجتماعية في المفاوضات مع الشركاء الدوليين لتونس حتى لا يزداد الفقراء فقرا ولا ينتفع بالدعم إلا من يستحقه لأن الذوات البشرية ليست مجرد أرقام ومن حقها أن تتمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي هي من حقوق الإنسان

والتقى الرئيس أيضا بأعضاء من الإتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري في غياب لافت لرئيسهم، بخلاف ما فعله مع منظمتي الأعراف والأجراء، وبشّرهم بأن : نتائج الاستشارة الإلكترونية بينت بوضوح أن قطاع الفلاحة والصيد البحري في مقدمة القطاعات التي من شأنها تحقيق خلاص الاقتصاد الوطني

وانتظمت في المساء بنادي الضباط بتونس العاصمة مأدبة إفطار على شرف رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة بحضور أعضاء المجلس الأعلى للجيوش إلى جانب عدد من الضباط من مختلف الأسلاك العسكرية للجيوش الثلاثة وفق الصفحة الفايسبوكية ذاتها

هذا ويظل اللقاء الأبرز في تقديرنا، والذي يمثّل منعرجا دقيقا وخطيرا في مسار الأزمة الداخلية التي تعصف بالبلاد، ذاك الذي تم مع وزيرة العدل والذي انتقد فيه سيادته القضاء بشكل صريح وتحديدا في علاقة بقضية النواب المحالين بتهمة التآمر على أمن الدولة واستهجن عدم اضطلاع النيابة العمومية بدورها

وأبدى رئيس الجمهورية في فيديو نشرته رئاسة الجمهورية أسفه من إقدام «عدد من القضاة وليس أغلبية القضاة» على «اغتيال العدالة» متسائلا بكل حزم «هل شاهدتم في دولة من الدول تأجيل قضية ويقول القاضي يا منعاش أو ياحيّ أو إرجع غدوة أو بعد جمعة ..او طلّ علي شهر آخر… فهل هذا قضاء أم اغتيال للعدل ؟ من غير الممكن استمرار هذا الوضع… وناس محاولة انقلاب ولا تم اعتقالهم ولم نطلب اعتقالهم ..النيابة قامت بدورها ثم يأتي ويقول له : امشي على روحك… فمتى يرجع ؟ طلّ علي بعد مدة …فهل هذه مجلة الإجراءات وهل هذه دولة القانون التي يريدون؟

ليس ذلك فحسب، يسترسل الرئيس في الرواية فيقول : اليوم نعيش في ظرف.. وكان من المفروض أن تقوم النيابة العمومية بدورها.. واحد قال انه عمل برلمان في المهجر وأنا لم اسمع ببرلمان في المهجر يمكن حكومات.. والآخر عامل حكومة إنقاذ وطني…. وين ماشين؟ واين هي النيابة العمومية ؟ لا تتحرك وحتى لما تتحرك وأنا عمري ما سمعت في دولة من الدول مجلة الإجراءات أو المرافعات تقول: ايجا طلّ علي بعد جمعة او ايجا اعمل طلة فهل هذا قضاء ؟ فلا يكفي الوضع الاقتصادي وانهم افرغوا خزائن الدولة والإجرام المعروف.. والقضايا ماشية منذ 20 سنة دون اي حكم نهائي والقضاء يكون عادلا وليس حكم بعد 20 سنة …وماذا ينفع حكم بعد 20 سنة ؟ بعدما يكون المتقاضي قد مات في الأثناء ربما آو خسر أمواله …الحق واضح ولكن أيضا التلاعب بهذه الحقوق أيضا واضح ولا بد من وضع حد لهذا والدولة ليست لعبة

أجل هكذا تكلّم رئيس الجمهورية في حضرة وزيرة العدل، وهو رئيس السلطة التنفيذية والمستأثر كذلك بالسلطة التشريعية، عن السلطة القضائية وحرصت مصالح رئاسة الجمهورية على نشر فيديو المقابلة وهو ما يفتح الباب للتعليق الحرّ في الداخل والخارج وبناء الاستنتاجات التي تذهب أغلبها إلى ما حذّر منه ساكن قرطاج نفسه وهو اغتيال العدالة

إن مضمون كلمة رئيس الجمهورية يطرح إشكالين جوهريين على الأقل، الأول يدرّسه أساتذة القانون ويتصل بالفصل بين السلط أو استقلالية السلط وعلاقة بعضها ببعض، والثاني ترجمة وتأويل الموقف الرئاسي من سير مرفق القضاء اليوم، وأبعاد وتداعيات مثل هذه «التوجيهات» أو «التعليمات» أو «الانتقادات» أو ليسمّها كل على طريقته، وانعكاساتها على القضاء والقضاة وهياكلهم ووزارة الإشراف والرأي العام الوطني والدولي وعلاقة كل ذلك بسبل الخروج من الأزمة المركّبة الجاثمة على البلاد والعباد خصوصا في مناخ تختلف فيه القراءات والرؤى والنظرة إلى المقاربة الرئاسية للخروج منها

إن «الوقائع» و«الأحداث» التي تحدّث عنها رئيس الجمهورية على درجة كبيرة من الخطورة، وبعض ما يأتيه أبناء تونس الضّالين وخصوصا خارجها يرتقي بالفعل إلى الخيانة العظمى ولا مناص من تحمّل القضاء لمسؤوليته في حماية الدولة وصون هيبتها وكذلك الأمر بالنسبة إلى مؤسسات الدولة ورجالها الذين يمتلكون الكثير من الأدوات القانونية الرقابية والردعية التي بمقدورهم اعتمادها دون ضرب السير العادي للدولة والتعدّي على نواميسها وعلى أسس السلم الأهلي والعيش الكريم فيها

لا شيء كان يمنع رئيس الجمهورية، بدل مهاجمة القضاء والقضاة في المباشر أمام الشعب والعالم وأمام الله والتاريخ كما يقال، من المرور الناعم عبر قنوات الدولة ومؤسّساتها – دولة القانون – حتى لا نرهب أحدا وحتى لا نعطي انطباعا بالاستحواذ على السّلط والتسلط وهي مطبّات الشعبوية، وذلك بالتعويل على التفقديات مثلا أو وضع ما توفّر من معطيات موثّقة تثبت جرم أعداء الوطن وعمالتهم وخيانتهم وتجاوزهم للقانون على ذمة القضاء لمحاججته المشروعة في ما بعد إذا لم يبتّ أو يحسم أو يعطي الحق لأصحابه

ولا يمكن فوق كل هذا تجاوز حقيقة أن ملف النواب في البرلمان المنحل ودور حركة النهضة ورئيسها على وجه الخصوص، هو ملف سياسي أيضا ولا يمكن بالتالي رمي الكرة في ملعب السلطة القضائية وليس عسيرا على التونسيين اليوم علاج هذا الملف بأخف الأضرار خصوصا وأن في جراب الحركة ملفات «أثقل» بكثير متصلة بالتمويل والإرهاب والاغتيالات السياسية

لقد بان بالكاشف وفق كلام رئيس الجمهورية نفسه، أن الأمر لا يتعلق بتغيير الأسماء واليافطات والمواقع كما حصل مع المجلس الأعلى للقضاء الذي استدل به على سبيل المثال، بل إن الأمر أعمق بكثير ويرتبط بتعافي الدولة وبتقديم النوايا الطيبة والرؤى الواضحة الإبداعية والواقعية في نفس الوقت، وترجمة النوايا الطيبة إلى أفعال حقيقية بأياد ممدودة للشركاء في الوطن ممن لم يتسبّبوا في خرابه ووصوله إلى ما وصل إليه من تأزّم ووهن، وكل هذا يجب أن يتم في مناخ من الثقة في النفس وفي الآخرين

بقلم: مراد علالة