« الحرب في أوكرانيا : هل يتغيّر العالم بفضل ورطة « خادم الشعب

هل عادت عقارب الساعة إلى ما قبل سقوط جدار برلين؟ أم نعيش لحظة فاصلة بين عهدين؟ وما هي دروس الحرب في أوكرانيا؟

بداية يجدر التّذكير بأنّ تجديد رئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي الملقّب بــ »خادم الشعب »، الرّغبة في انضمام بلده إلى حلف شمال الأطلسي، كان سببا مباشرا في انفجار الأزمة

ولكن ما المانع في ذلك والحلف يضمّ حاليا ثلاثين بلدا من أوروبا ومن خارجها؟ أليس لكلّ بلد حرّية اختيار ترتيب علاقاته الدّولية لتأمين أمنه وضمان استقراره وحماية حدوده؟

طبعا، مبدئيّا يبقى من حقّ أوكرانيا كبلد مستقل اختيار الانضمام إلى أيّ حلف أو اتّفاق دولي، ولكن ليس من حقّ دول الغرب الدّفاع عن هذا المبدأ. لماذا؟

الجواب بكلّ بساطة نجده في سياسات تلك الدّول خارج حدودها، وخاصّة سياسة الإدارة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، ويكمن أيضا في العودة إلى الترتيبات الدّولية المنبثقة عن سقوط جدار برلين، وتحديدا إلى مؤتمر جنيف، سنة 1990، بين الرئيس الأمريكي جورج بوش والرّئيس السوفييتي ميخائيل غوربتشيف، عندما اتّفق « العملاقان » على توحيد الألمانيتين مقابل التزام الغرب بعدم تمديد حلف شمال الأطلسي بين ألمانيا والاتحاد السوفييتي، وأكّد على ذلك وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر، في تصريح علني « لا تقدّم شبرا واحدا نحو الشّرق » . لكنّ الغرب استغلّ انهيار الاتحاد السوفييتي وانشغال روسيا بترتيب بيتها الدّاخلي للتّراجع عن تعهّداته وقام بتمديد حلف شمال الأطلسي، بداية من سنة 1999، وضمّ 14 دولة جديدة تقع كلّها في وسط أوروبا وشرقها، أي تلك الدّول التي كانت إمّا جزءا من الاتحاد السوفييتي أو كانت تحت نفوذه. وبذلك أصبحت صواريخ الحلف وجنوده قريبة جدّا من روسيا، إذ باتت أقرب قاعدة صواريخ أطلسية لا تبعد عن مدينة سان بطرسبورغ الرّوسية سوى 145 كيلومترا، بعد أن كانت أقربها قبل سنة 1989 تبعد حوالي 1300 كيلومترا

لم يكتف الغرب بذلك التمدّد بل واصل سياسة الحصار لروسيا والمساعي لاحتوائها، عندما قرّر جورج بوش الابن سنة 2008، المنتشي بانتصاراته العسكرية في العراق وأفغانستان، تجديد الدّعوة إلى انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف بعد أن سبق رفضهما، سنة 2004، بسبب عدم توفّر الشروط الكافية، ولكن روسيا في سنة 2008 غير روسيا سنة 2004 لذلك بادر الرّئيس بوتين بقطع الطّريق أمام هذه المحاولة الغربية لغرس سكّين في خاصرة بلده بأن قام بغزو جورجيا، في أوت 2008، في حرب الأيّام الخمسة، معلنا بهكذا غزو عن عودة روسيا إلى السّاحة الدّولية كقوة رئيسية تستوجب مراعاة مصالحها

لئن استوعبت جورجيا الدّرس، فإنّ الرّئيس الأوكراني الجديد، زيلينسكي، شرع منذ وصوله إلى الحكم في اعتماد سياسة معادية لروسيا، كالتّضييق على وسائل الإعلام والأحزاب الاوكرانية الموالية لروسيا، وجدّد الدّعوة لضمّ بلده إلى حلف شمال الأطلسي معتقدا أنّ الظّروف مواتية لتحقيق تلك الرّغبة بعد هزيمة الرئيس الأمريكي ترامب، المعترض على ضمّ اوكرانيا وجورجيا إلى الحلف، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية أمام الدّيمقراطي جو بايدين المرحّب بعضوية أوكرانيا رغم أنّه سبق له مصارحة الأوكرانيين في خطاب أمام نوّاب برلمانهم، عندما كان نائبا لباراك أوباما سنة 2014، بأنّ عليهم مقاومة الفساد المستشري في بلدهم قبل التفكير في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي

لقد غيّر بايدن موقفه، تحت ضغط صقور إدارته المتخوّفين من عودة « الدب الرّوسي »، متناسين تحذيرات مهندس سياسة الحرب الباردة، الدبلوماسي والمؤرّخ الأمريكي جورج كينان (1904-2005)، الذي عمل عدّة سنوات في سفارات الولايات المتحدة بالاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، عندما قال أنّ : توسّع الحلف الأطلسي شرقا هو أكثر الأخطاء الأمريكية فداحة في حقبة ما بعد الحرب الباردة

إنّ كلّ المؤشّرات تدعّم تحذيرات كينان وتوحي بأنّ العالم مقبل على تحوّلات عميقة على المستوى الاستراتيجي، إذ وجدت الإدارة الأمريكية نفسها في ورطة، فهي لا تستطيع مواجهة روسيا عسكريا بعد انسحابها من العراق وأفغانستان، وفي ذات الوقت لا تستطيع غضّ الطّرف على غزو أوكرانيا وتشجيع بوتين على مزيد قضم الأراضي في شرق أوروبا واستعادة نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق، وإغراء « الصّقر الصّيني » بالانقضاض على تايوان والتمدّد في جنوب بحر الصّين

فما هو الحل بالنسبة لبايدن؟

لم يبق له سوى تحريك آلة الإعلام الغربي والمنظّمات الدّولية، سواء كانت رياضية كالفيفا أو ثقافية كاليونيسكو أو اقتصادية كمنظومة سويفت، والمنظّمات غير الحكومية، كالمنظمات الحقوقية والبيئية، وشبكات التواصل الاجتماعي، مثل الميتا واليوتيوب وتويتر، الجميع يتحرّك في جوقة واحدة تتابع بدقّة وبانضباط حركات عصا المايسترو للضّغط على روسيا وتشديد الحصار عليها، ثمّ سيسعى بايدن إلى تحويل أوكرانيا إلى مستنقع جديد على أمل إنهاء روسيا كما سبق لأفغانستان أن أنهت الاتحاد السوفييتي

زيلينسكي، الملقّب بــ »خادم الشعب »، نسبة إلى المسلسل الشهير الذي قام ببطولته وكان وراء شهرته واقتحامه عالم السّياسة، ورّط شعبه في حرب غير متكافئة بسب انعدام الخبرة والجهل بمتطلّبات موازين القوى الاقليمية والدّولية، وعوض الاعتبار بالأزمة الكوبية لسنة 1962 عندما حاصرت الأساطيل الأمريكية الجزيرة الكوبية بسبب تركيز السوفييت لقاعدة صواريخ بها، وعوض الاقتداء بنموذج فنلندا والسويد الرّافضتين للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والمتمسّكتين بحيادهما بسبب قربهما من الحدود الرّوسية، أو اتّباع نموذج المكسيك التي قالت عنها المؤرّخة المكسيكية « إيريكا باني »  بأنّها « ليست حرّة في اختياراتها الدّولية بحكم مجاورتها للولايات المتحدة الأمريكية »، مضيفة بأنّه « في السّياسة الدّولية إذا كنت تعيش بجوار فيل عليك أن لا تستفزّ ذلك الفيل »، فعوض كلّ ذلك اختار زيلينسكي سياسة الهروب إلى الأمام معوّلا على وعود الغرب الكاذبة، فلم ينل من الغربيين سوى عقوبات على روسيا لا تنفعه ولا تغيّر من واقع الحال، وتمكينه من وعد بضمان اللجوء الآمن في حال هروبه

رغم ما ارتكبه « خادم الشعب » من حماقة مكلفة فإنّه، ودون قصد، ربّما يكون قد ساهم في تسريع إنهاء النّظام الدّولي الذي فرضته الإدارة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية وتعويضه بنظام دولي جديد أكثر عدلا وإنصافا وأقلّ عربدة للقوى العظمى

بقلم: عبدالجليل بوڤرّة