في سابقة خطيرة لم نتعوّد عليها صراحة في دولة الاستقلال وفي ظل منظومات الحكم المتعاقبة وحتى أثناء الهزات الكبرى التي عرفتها الدولة على غرار ما حصل في 2011، لم تُصرف إلى حدود اليوم الأخير من شهر جانفي المنقضي أجور المدرّسين في التعليم الأساسي وكان تنزيل الأجور في قطاعات أخرى مثل التعليم العالي والثانوي ومؤسسات عمومية مختلفة متقطّعا وعلى مراحل لدرجة جعلت عضو الجامعة العامة للتعليم الأساسي إقبال العزابي يعتبر ذلك : عملية إذلال ممنهجة
وكما هو معلوم فإن تأخير صرف الأجور له تداعيات كثيرة على التوازن الاجتماعي والسلم الأهلي بحكم الوظيفة الحياتية لهذه الأجور وكذلك حالة تدهور القدرة الشرائية وغلاء الأسعار وفقدان عديد المواد الأساسية دون أن ننسى توظيف خطايا على التأخير من طرف البنوك بما أن طيفا لا يستهان به من الأجراء مكبّلون بالقروض بشتى أنواعها والخطير في غضون ذلك هذه الروايات عن فقدان «السيولة» وطبع الأوراق النقدية
اجتماعيا أيضا، ورغم القراءات المطنبة في التفاؤل للّقاء الذي جمع رئيس الجمهورية قيس سعيد بالأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل منذ أسبوعين، لم نلمس في الواقع مخرجات لهذا اللقاء في الواقع، فالمناشير الحكومية على حد علمنا ما تزال سارية رغم تحفظ المنظمة الشغيلة، والإضرابات المبرمجة من أجل تفعيل اتفاقات سابقة متواصلة في عديد القطاعات، بل وثمة إضرابات في الأفق نتوقع تصعيدها خصوصا وأننا في ديناميكية عقد مؤتمر مثير للجدل لاتحاد الشغل
وفي باب الحريات، وبقطع النظر عن مواقف المنظمات الدولية التي نقّدرها ولا نعتمدها معيارا أو شرطا لرسم قراءتنا وتحديد المواقف من السلطة بما أن المنظمات الوطنية ذات المصداقية تضطلع بدورها وأطلقت بدورها صفارات الإنذار فهاهو نقيب الصحافيين مثلا يؤشّر إلى أن «المناخ ليس مناخ حريات وعمل، بل يسيء لتونس وللدولة التي كانت منفتحة على وسائل الإعلام»، ونبرة النقد هذه لمسناها في الموقف الذي صدر عن الجماعات الحقوقية بعد التصدّي العنيف للمحتفلين بذكرى 14 جانفي في العاصمة
لقد تجاوز عمر الحكومة المائة يوم، وتجاوزنا «25 جويلية» بستة أشهر ونيف ومع ذلك لم يتغير حال البلاد والعباد، وبدأ منسوب الثقة والتفاؤل في الاهتراء
صحيح أن الحكومة أسيرة أمر إحداثها لتنفيذ السياسة العامة للدولة التي يضبطها رئيس الجمهورية، لكنّنا راهنّا في وقت من الأوقات على القيمة المضافة وعلى بصمة المرأة التونسية التي تلج للمرة الأولى القصبة
لكن الحصيلة دون المأمول، تراجع عن تفعيل القانون عدد 38 الخاص بتشغيل من طالت بطالتهم، ارتفاع نسبة البطالة، إصدار قانون مالية محلّ مؤاخذات عدّة، ارتفاع نسق الهجرة النظامية وغير النظامية على حد سواء، ولعلّ صورة فريق من المبنّجين في مطار تونس قرطاج قبل أيام تغني عن أي تعليق ولا تختلف في تقديرنا عن صور وتسجيلات عمليات الحرقة «النوعية» إن جاز القول بعد 25 جويلية، حيث شهدنا «حرقة» العائلات وحرقة المشاهير في نفس الوقت الذي يقع فيه ترحيل العشرات وربما المئات من أبنائنا من أوروبا في رحلات خاصة حسب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على سبيل المثال
ولا يمكن أن نغض الطرف هنا عن تنامي العنف اللفظي والمادي والجريمة وآخر ما سجلناه من استهداف للمجتمع التونسي، هذه الظاهرة الغريبة المتمثلة في حقن الأطفال التلاميذ أمام المؤسسات التربوية، مع عودة جائحة الكورونا بقوة وتسجيل ارتفاع في حالات الوفاة والإصابة
إزاء هذا المشهد، لا يمكن للثقة مهما كان منسوبها وحجمها أن تصمد كما صدح بذلك الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي: يكفي .. الصبر لم يعد مُمكنا وكلّ الأضواء الحمراء اشتعلت وما نراه اليوم ضحك على الذقون
ليس ثمة اليوم إجابة تشفي الغليل وتأخذ بعين الاعتبار ترابط الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وما يزيد الطين بلّة كما يقال، هو عدم ارتقاء الإجابة السياسية والأداء السياسي مع الواقع المنهار على جميع الأصعدة
إن اختزال الحل اليوم، في تنفيذ خارطة طريق سياسية أحادية الإعداد والتنفيذ وفي تباعد كي لا نقول قطيعة مع الاكراهات الاجتماعية والاقتصادية، يضعنا أمام حالة من العبث صراحة ومن إهدار الوقت على حساب الوطن والشعب ويفتح الباب أمام المزايدات الداخلية والخارجية والأخطر من ذلك فتح الباب أمام التدخل الخارجي
لقد بشّرنا رئيس الجمهورية قبل أيام بمخرجات الاستشارة الافتراضية التي انطلقت متعثّرة منتصف جانفي المنقضي بدل الفاتح منه، وسط مقاطعة كبيرة شملت حتى مساندي قرطاج الذين تحفّظوا على الاستشارة ومضمونها وطريقة تنفيذها والمنزلة التي أعطيت لها في الخارطة بما أنها ستؤسّس لاستفتاء 25 جويلية القادم وللانتخابات التشريعية في 17 ديسمبر 2022
ليس ذلك فحسب، قيل أن الاستشارة تُجرى «على وجه الفضل» دون تخصيص اعتمادات لها في ميزانية الدولة والحال أن الحكومة ووزراء بعينهم كما رأينا منشغلون بها ولم يدخروا الجهد في بداية قراءة النتائج وزفّ السبق بالنسب المائوية المرتفعة للأجوبة عن الأسئلة الموجهة بطبعها في مخالفة علمية صريحة لمناهج وطرق الاستشارات واستطلاعات الرأي
وحتى بعض الولاة الذين رمتهم الأقدار في هذه الوظائف السامية بالدولة دخلوا على الخط بكل حزم وذهب أحدهم إلى إنكار حق الأحزاب في التظاهر السلمي وآخر لاتهام الصحافية باذاعة «شمس أف أم» خولة السليتي بكونها «مبعوثة» فريق سياسي «باش تفسّد خدمة دولة» بل أكثر من ذلك يخاطبها والي بن عروس : ما عندكش الحق باش توجهلي السؤال اللي تحبّ عليه
وين ماشين ؟… حقيقة «وين ماشين»؟.. هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه اليوم ونحن نرى صورة البلاد رمادية كي لا نقول شيئا آخر، والفجوة بين الشعب ومن يحكمه تتّسع من يوم الى آخر رغم شحنة الأمل التي عرفناها خلال الصيف الماضي والتي بدأت تتبخّر تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة والأيادي المرتعشة والهواية التي تصبغ العملية السياسية الحالمة والهلامية والبطيئة البعيدة في تقديرنا عن الواقع والتي لن يجديها العزف المنفرد على أنغام مقاومة الفساد وإصلاح القضاء وتطهير القطاعات وتحقيق إرادة الشعب
بقلم: مراد علالة