أياما قليلة بعد الترفيع في أسعار المحروقات والكهرباء والماء الصالح للشراب والحليب، رفّعت الحكومة التونسية أول أمس الثلاثاء أسعار النقل العمومي وسعر السكر الموجه للاستهلاك العائلي بنسبة بلغت تقريبا 22% لهذه المادة الغذائية الأساسية -خلسة- وهي نسبة لم يعهدها التونسيون على مرّ العقود وحتى عندما تجرأت حكومة محمد المزالي عام 1984 على مضاعفة سعر الخبز، انتفض التونسيون واضطر الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة للتراجع أمام هول الخسائر في الأرواح والخسائر المادية وإصرار الشعب حينها على عدم التراجع إذا لم يتراجع الحكم
واللافت في سلوك الحكومة اليوم إلى جانب التمرير الناعم للزيادات في الأسعار وعدم إشهارها أحيانا، توظيف قاموس غريب وملتبس واستعمال مصطلحات غير بريئة للتمويه والمغالطة للتخفيف من وقع الخيار الحكومي على الشعب من قبيل «الترشيد»و«التعديل»، والتعديل بهذا الشكل هو في الحقيقة خيار مؤلم يُفرغ الجيوب ويقسم الظهور، دون ان ننسى إطلاق الحملات التبريرية والتفسيرية والتذرع بانعدام الحلول الأخرى والإيهام بأن القادم أفضل بما أن «التعديل» اليوم خطوة تستهدف خفض العجز المالي في إطار خطة إصلاحات اقتصادية شاملة
إن «التعديل» الحكومي للأسعار والذي يعني بالنسبة إلينا والى التونسيين الزيادة في الأسعار –وبطريقة مجحفة- هو الخيار الوحيد الذي تبقّى للحكومة التي أسرت نفسها في برنامج عمل أحادي وخيارات هشة لم تراهن على نقاط القوة في الداخل بقدر المراهنة على الشركاء في الخارج والانحناء لتوجيهاتهم
ليس ذلك فحسب، فقد كنا على بينة من «التعديل» ومن الزيادات في الأسعار وفق الميزانية ووفق قانون المالية الذي أعدته الحكومة وصادق عليه مجلس نواب الشعب للأسف لكننا لم نكن نتصور أن يقع تنفيذ الزيادات بهذه السرعة أولا، وثانيا بهذه النسب المائوية المرتفعة وكذلك تعميم المجالات، فهي زيادات لم تستثن قطاعا أو مادة استهلاكية والأخطر من ذلك أن الزيادة في سعر مادة بعينها تؤدي آليا وارتداديا إلى زيادات في مواد أخرى على غرار الزيادة في سعر المحروقات مثلا أو السكر الذي سيفجّر زيادات في أكثر من مادة استهلاكية أخرى
المقلق أيضا، أن تأخر الحكومة في إعداد ميزانية تكميلية للعام 2021 بناء على تعهد صريح أمام الشعب في مجلس نواب الشعب في ديسمبر الماضي عند تمرير الميزانية الحالية، يفتح المجال للتأويلات والقراءات المتشائمة لان هذا التأخير يعني أمرين كلاهما مرّ أولهما ضيق ذات يد الحكومة وافتقارها لحلول في مستوى انتظارات التونسيين وثانيهما ترك الباب مفتوحا أمام الاجتهاد والتصرف وفق منطق رد الفعل والزيادة في الاسعار كما اتفق بعقلية «العطّار» التي تحدث عنها أحد الوزراء بعد 2011
ويبدو أن إصرار الحكومة على المضي في «غيّها» إن جاز القول تشجعه «الإشارات» الخارجية من جهة ومن جهة ثانية موازين القوى الداخلية والأوضاع المترتبة عن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي تعصف بالبلاد وتفاقمت بعد انتخابات 2019 بشقيها الرئاسي والتشريعي، فالشعب منهك وقطاعاته المهنية متدافعة ومنظماته الاجتماعية ليست في أفضل أحوالها وهذا ملف جدير أيضا بالمتابعة
وخلافا لما يراه البعض فإن بعض الأطراف كما يحلو للبعض الحديث عنها له مصلحة في ما نحن فيه بل هو مستفيد من تأبيد الأزمة وطالما أن هذه الأزمة لم تمسّ مصالح أركان منظومة الحكم جميعهم فإنهم سيتمادون في غض الطرف عن معاناة الناس والأدهى من ذلك أنهم سيواصلون الحرب على بطون التونسيين وهدفهم في المحصلة تسجيل النقاط وكسب الرهانات الشخصية استعدادا للطوارئ السياسية وانتخابات مبكرة قد تلوح في الأفق
إن اعتراف رئيس الحكومة هشام المشيشي اليوم بأن «تونس تعيش وضعا اقتصاديا واجتماعيا صعبا ونزيده صعوبة بالرسائل السلبية الى الخارج» يؤكد ما ذهبنا اليه، فما معنى أن يستبق حزب حتى وان كان الضلع الأكبر في الحكومة وفي وسادتها السياسية والبرلمانية زيارة رسمية خارجية لساكن القصبة ويعلن عن نتائجها ومخرجاتها التي تبيّن بعد نهايتها أنها مجرد «فايك نيوز»، وما معنى أن ينشر رئيس جمهورية غسيل البلد في الخارج ويحذّر المستثمرين من الفساد المستشري في تونس، وما معنى أن يعتصم نائب مارق وخارج عن القانون ويدعمه «إخوته» في البرلمان نكاية في ساكن قرطاج والحال أنها النكاية الأكبر في البلاد والعباد؟
سوف تبادر الاحزاب دون شك باصدار البيانات المندّدة والمستنكرة لموجة الزيادات وستتبعها المنظمات الاجتماعية وسوف يغمس رموز الائتلاف الاغلبي الحاكم رؤوسهم في التراب الى حين مرور العاصفة التي لن تمر، ولا نستغرب أن تثور أحزاب الحكم نفسها على الحكومة، من منطلق الابتزاز أو التنصل من المسؤولية ومغالطة الجمهور، وفي غضون ذلك سوف يئن التونسي و«يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم» كما جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وكما جاء في أكثر نص وفصل من دستور تونس الجديد والذي بموجبه ومن أجل التمتع بما ورد فيه من حقوق تنتفض هذه الايام أغلب القطاعات لأسباب ومطالب خاصة مشروعة كالقضاة والمربين والمهندسين والمعطّلين وغيرهم، وستتحول هذه الانتفاضات «الخاصة» دون شك الى انتفاضة «عامة» جماعية بفعل زيادات مجحفة في الأسعار لا تميّز بين البطون وتهدّد الحق في البقاء فهل يستفيق أصحاب القرار ويجرؤون على إذابة «كرة الثلج» في مهدها في هذا الصيف الساخن بكل المقاييس
بقلم: مراد علالة