من خيانة «الماء والملح» إلى العربدة في المطار…الـســقــطـــة الأخــيـــــرة

البرلمان أصبح عبءا على المجتمع والدولة

لن تجدي اجتماعات اللجان بعد اليوم، لن تنفع جلسات التهريج العامة ولا جلسات «فرّغ قلبك» تحت يافطة العمل الرقابي ومساءلة الوزراء، لن تنطلي علينا «بدعة» استقبال وفود القطاعات الغاضبة والجهات المنتفضة ولا سفراء الدول الشقيقة والصديقة الذين أصبحت لهم صولات وجولات في المشهدية التونسية الحزينة، نواب الشعب وصلوا بأدائهم إلى الحضيض بل أبعد من الحضيض مع احترامنا لبعض الأسماء التى نتساءل عن استمرار وجودها في هذا الفضاء

لقد قبلنا على مضض ما سمي بالسياحة الحزبية وازدهرت سوق البيع والشراء واصبح «الميركاتو» تحت قبة البرلمان اكثر «تشويقا» من ميركاتو كرة القدم في تونس وخارجها، اكثر من ذلك، طبّعنا للأسف مع العنف وصرنا لا نبالي بخصام النواب منذ اللحظة التي سال فيها الدم في إطار «عركة» بين «المشرّعين» اختلف الماسكون بزمام الأمور في باردو في تقدير خطورتها وتحديد المسؤوليات وإدانة المذنبين فيها لكننا اليوم لم نعد قادرين او ملزمين بالصمت والتحفظ ازاءها ولا مناص من القول بوضوح ومسؤولية ان البرلمان بشكله وأشكاله اليوم لم يعد فقط عبءا على الديمقراطية كما سبق وأن كتبنا ذلك، وإنما عبءا كبيرا على المجتمع والدولة وعلى القيم والأخلاق والنواميس والحاضر والمستقبل

آخر تمظهرات الأزمة او السقطة الأخيرة لنواب الشعب ليست في «العمل النيابي» الرديء ولا في العراك ولا حتى في التسجيلات المسرّبة وخصوصا مضامينها على خطورتها وإنما في «أسوإ المسالك» في الحصول على التسجيلات! أجل، يحدث في تونس اليوم ان يدخل تونسي إلى بيت تونسي اخر و«ياكل معاه الماء والملح» كما يقال ويطمئنه ويستثيق به ويأتمنه ويتحدث إليه بحرية ليقوم بتسجيل فحوى الحديث وينشره بعد ذلك في سياق «حرب سياسية رديئة قذرة»، بئس العمل النيابي وبئس العمل السياسي وبئس الشرعية الانتخابية وبئس الأخلاق التي تسمح وتفتح الباب لمثل هذا السلوك الهجين

أجل يحدث في تونس ايضا ان يتمرد «نائب» عن الشعب على الدولة وأن يعربد في المطار ويتهجم على المكلفين بإنفاذ القانون وحفظ الأمن في البلاد من أجل السماح بالسفر لامرأة من حقّها ربما ان تتنقل لكن في إطار القانون واذا ما انتفت الموانع القانونية والسيادية وهو ما لم يحترمه «النائب» الذي أعاد للأذهان غزوة «نائبة» سابقة من نفس العائلة «السياسية» وتحديدا من حركة النهضة التي أرادت ذات يوم من شهر أكتوبر 2018 فرض سفر مواطن متحفظ عليه من قبل المصالح الأمنية وهو إجراء معمول به في أعتى الديمقراطيات وتواصل منذ ذلك التاريخ النزول إلى الهاوية

لقد نبهنا من قبل إلى ان اختزال الأزمة الخانقة التي تعصف بالبلاد في البعدين الاقتصادي والاجتماعي ثم إضافة البعد السياسي دون التأكيد على البعد الاخلاقي ليس سليما فنحن أمام أزمة مركّبة غير مسبوقة زادها تعقيدا وعنفا سلوك هؤلاء السياسيين بشكل عام وبوجه خاص «رموز» وأركان منظومة الحكم المنبثقة عن انتخابات 2019 بشقيها الرئاسي والتشريعي

لقد عرفت المؤسسة البرلمانية حالة استنزاف ممنهج منذ لحظة الانتصاب عندما وقع اختيار رئيس حركة النهضة لرئاسة مجلس نواب الشعب وهو ما خلق لبسا وخلطا في الأدوار ولم نعد نميز بين رئيس حزب ورئيس برلمان وتواصل العبث والتعطيل وها نحن بعد عام ونيف لا نسجل في حصاد المؤسسة التشريعية ما يثلج الصدر ما عدا ميزانية تفقير الشعب والكثير من القروض التي لا يعلم الا الله كيف سنسددها مع العراك والهرج والمرج كل يوم

إضافة إلى ما تقدم، فإن هذه «السقطة» الأخلاقية الأخيرة تفنّد جميع القراءات التي تحاول الفصل بين مكونات الأزمة وتجلياتها وتبرز ان المعركة الكبرى بين القصور وصلت إلى نقطة اللاعودة وما لم يتحمل أي طرف مسؤوليته ولم يقم كل «زعيم» متمترس بكرسيه بخطوة إلى الوراء وتقديم تنازل شخصي ولو مؤلم لشخصه يكف عن العمل للحساب الخاص فإن الحل يصبح في الحل الجذري الذي قد يكون مكلفا لكنه يظل هذه المرة اقوم المسالك لوقف النزيف الأخلاقي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي قبل فوات الاوان وقبل ان يهب الشعب ويلوذ إلى العصيان والتمرد كما جاء في شرعة حقوق الإنسان ويصحّح مسار تجربته الديمقراطية ويستعيد ثورته

بقلم: مراد علالة