لا يمكن أن نفهم ما يحصل لبلادنا منذ عشر سنوات إلا في ضوء فرضيتين : الفرضية الأولى وجود مخطط مدروس وممنهج غايته تدمير الدولة القائمة ومؤسساتها بهدف إقامة نظام بديل للحكم ينسجم مع أطروحات الحزب ذي الأغلبية، وقد شمل التدمير ركائز البلاد الاقتصادية خاصة بهدف إفقاد عامة المجتمع الثقة في قدرة هذه الدولة على الاستجابة لمطالب الشعب وعلى توفير الحدّ الأدنى من مقتضيات العيش وعلى الإيفاء بالتزاماتها داخليا وخارجيا. أما الفرضية الثانية فهي أن كلّ الذين تداولوا على الحكم خلال هذه العشرية، إن كان هناك تداول حقّا، قد فشلوا في إدارة الدولة وفقا لمقتضيات المرحلة ومتطلباتها. فغلبت العشوائية والركون إلى الحلول السهلة ومنها التداين من كل من يدفع وبكل الشروط المفروضة وغاب التخطيط والبرامج القادرة على تثبيت دعائم مؤسسات الدولة وعلى الاستثمار وخلق مواطن الشغل وتنويع مصادر الثروة وتنمية الثروات والمقدرات الوطنية، حتى انتهى الأمر إلى دولة مهددة بالإفلاس وإلى إفلاس تام أو جزئي لكل المؤسسات الاقتصادية العمومية التي قامت عليها الدولة الوطنية
في كتابه « أزمة الإسلام السياسي ، الجبهة الإسلامية القومية في السودان نموذجا » يقول الكاتب السوداني حيدر إبراهيم علي « لا يفهم الإسلاميون الديموقراطية على أنها اختيارات وتعدد واختلاف إنما هم يتوقون دائما إلى التمكّن التام وكانت الديموقراطية التي ولّتهم السلطة ورضوا بحكمها مؤقتا عقبة حقيقية أمام تطبيق مشروعهم » ولم يكن ذلك المشروع غير إقامة الدولة الإسلامية التي تحكمها الشريعة . وقد قدم الكاتب أدلة ووثائق وشهادات تبين كيف عملت الجبهة القومية الإسلامية على تدمير دولة السودان من داخلها وعلى تعطيل كل مؤسساتها يقول « عمل نواب الجبهة القومية الإسلامية على تعطيل الجمعية التأسيسية لإثبات فشل وعجز النظام الديموقراطي عن حلّ مشكلات الوطن » . هذه الجبهة وزعيمها حسن الترابي هي أحد مراجع حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي، كلاهما يمثل فصيلا من جماعة الإخوان المسلمين والرجلان جمعت بينهما علاقات قوية سمحت لهما برسم خطط واحدة أدت إلى تدمير التجربة الديموقراطية في السودان وإلى إرجاع هذا البلد الحافل بالخيرات والقادر وحده عل ى إعالة كل سكان البلاد العربية إلى مراتب الدول الأشد فقرا في العالم ، وهاهي الخطة نفسها تنفذ في تونس وهي بصدد إعادتها إلى المصير نفسه. ومثلما كانت خطة حسن الترابي والجبهة القومية الإسلامية تقضي بتجييش الشارع ضد ما بقي من مؤسسات الدولة الديموقراطية بحجة الدفاع عن الشرعية وذلك عبر الحملات الإعلامية ودعوة الأنصار إلى التظاهر والخروج إلى الشوارع نرى التمشي نفسه في تونس اليوم حيث تستعد حركة النهضة وتسعى بكل وسائلها لتجييش أنصارها ودفعهم نحو التظاهر في الشارع دفاعا عن الشرعية كذلك
هل فهم الشعب التونسي إيديولوجية الحركات الإسلاموية؟ هل هو على دراية بخططها لتنفيذ هذه الإيديولوجية وبرامجها السلطوية؟ هل يملك المعرفة والوعي المناسبين ليقدّر خطورة اختيارها حتّى تتمكن أكثر فأكثر من دواليب السلطة ومن التحكم في مؤسسات الدولة؟ لا نعتقد ذلك ، كما لا نعتقد أن المثقفين التونسيين قد قاموا بالدور الضروري لخلق مواجهة شعبية منظمة وسلمية لهذه الإيديولوجية التي تستهدف الدولة المدنية ونظامها الجمهوري ومؤسساتها الديموقراطية . أما القوى السياسية فإنها لم تعمل بما يكفي من الجدية والتنسيق والتخطيط من أجل التصدي بالآليات الديموقراطية لأكثر الأحزاب خطرا على حاضر البلاد ومستقبلها، بل إن منها ما لم يتوان عن وضع يده بيدها ومساعدتها في مزيد التمكن من البلاد بعد أن التفت عليها وأفقدت ثقة الشعب فيها، وحتى بعض المحاولات التي قام بها في أزمة سابقة الرباعي الراعي للحوار فإن الحركة الإسلاموية سريعا ما التفت عليها وأفرغتها من محتواها لتعيد البلاد إلى أزمة أعمق في وضع أصبحت فيه هذه الحركة أكثر تمكنا من السلطة ومن مفاصل البلاد . وفي حين تعمل هذه بتنسيق كامل وضمن خطط دقيقة واستباقية نجد بقية القوى السياسية والمدنية في وضع رد الفعل دون تنسيق ولا تخطيط. وهذه بدل أن تعمل وفق ما تقتضيه الآليات الديموقراطية كأن تركز على العمل الشعبي من أجل تنمية الوعي السياسي وإعداد الجمهور لجولة انتخابية قادمة وأن تعمل على تعديل النظام الانتخابي وعلى استكمال إرساء المؤسسات الدستورية وعلى خلق جبهة قادرة على إنقاذ البلاد نراها تتخبط دون أفق واضح ولا برنامج يناسب خطورة الوضع الذي تمر به البلاد
لقد توقع حيدر إبراهيم علي في كتابه لمذكور والصادر في طبعته الأولى سنة 1991 أن يحدث في تونس في حال وصول الإسلامويين إلى الحكم ما حصل في السودان في ظل حكم الجبهة القومية الإسلامية ، ولئن اعتبر أن « الله قد لطف بنا في ذلك الوقت » فإن ما حصل ويحصل في بلادنا منذ عشر سنوات يشهد بأن توقعه كان في محلّه لأنه مبني على فهم عميق لحقيقة الإيديولوجية التي تحرك هذه الجماعات وعلى معرفة دقيقة بمخططاتها وبأساليب عملها. فمتى يدرك التونسيون ذلك؟
بقلم نزيهة جويرو