سوف لن أسقط في فخ الصراعات والتجاذبات حول الإشكال القانوني الدستوري بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة حول التحوير المُزمع إدخاله على الحكومة وحول وجوب أو عدم وجوب تأدية اليمين الدستورية للوزراء الجدد. فالمشكلة ليست قانونية دستورية بين سعيّد والمشيشي وإنما هي مشكلة سياسية بحتة بين سعيّد والغنوشي
فمن الواضح أن المشيشي، الذي اختاره وليّ نعمته قيس سعيّد، أدار ظهره لرئيس الجمهورية منذ تعيينه، ومنذ أن اختار « وسادته » النهضويّة، ظنّا منه أنه يضمن بذلك الحزام السياسي الضروري للبقاء في السلطة، دون الاتّعاظ بتجارب من سبقوه في الارتماء في أحضان الغنوشي ودون النظر إلى ما آل إليه مصيرهم المأسوي. وما تأييد الغنوشي والقروي ومخلوف لحكومته الأولى المُتكوّنة في أغلبها من مستقلين إلا مرحلة محدودة في الزمن تمّ الاتفاق عليها منذ الوهلة الأولى على أن يتمّ الاستيلاء على الحكومة بعد فترة قصيرة من قبل النهضة وقلب تونس
رفضُ قيس سعيّد لهذا التحوير هو إذن رفضٌ لهيمنة الترويكا الجديدة على السلطة التنفيذية بعد هيمنتها على السلطة التشريعية، ورفضٌ لتعطّش راشد الغنوشي اللامحدود للسلطة برمتها. ألم يدعو الغنوشي إلى إعادة النظر في الدستور لفرض نظام برلماني صِرف ليتمكّن الحزب « الأغلبي » من الحكومة بأكملها؟
تعطّش الغنوشي للسلطة يتّسم أيضا بالرغبة إلى الوصول إلى أعلى مستوياتها بسرعة فائقة، في صراع مع الساعة، بالنظر إلى قناعته بأن الوقت لا يخدم لصالحه. فسنّه المُتقدّمة، وقد بلغ الثمانين من العمر، لم تعد تسمح له بالانتظار، خاصّة وأن صحّته ليست في أحسن حال، وهو المصاب بمرض الباركنسون، دون ذكر أمراض أخرى حسب بعض الإشاعات. هذا علاوة عن أنه أصبح منبوذا من قبل شرائح عديدة من الشعب بسبب ما أصاب البلاد من أزمات في جميع القطاعات والجهات جرّاء سياسة النهضة في السنوات الأخيرة، ومنبوذا في مجلس نواب الشعب بسبب فشله في إدارته، ومنبوذا في حزبه بسبب تشبّثه برئاسة غير شرعية للحركة، ومطلوبا للعدالة بعد أن دُعي كمُشتكى به إلى الوحدة الوطنية للأبحاث في جرائم الإرهاب في إطار قضية الجهاز السري، حسبما صرّح به الأستاذ الرداوي عضو هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي
كل هذه الأسباب الداخلية، وغيرها من الإملاءات الخارجية المُحتملة من قبل التنظيم الإخواني العالمي، تجعل الغنوشي على عجلة من أمره للسطو على السلطة بشتى الطرق. وذلك ما يقف دون بلوغه الرئيس قيس سعيّد
قد يرى بعضهم أن رئيس الجمهورية كان يفتقد إلى الحد الأدنى من المرونة في التعاطي مع ملف التحوير الوزاري، إلا أنه في نهاية الأمر يبدو أنه مصرّ على رفض الحلول الترقيعية والوقتيّة، ذلك أن المشيشي، حتى وإن غيّر بعض الأسماء، سيبقى رهين الترويكا الفاشلة والإسلام السياسي والخط الظلامي المُسيطر على السلطة
إلا أن رئيس الجمهورية بقي غامضا جدّا في جانبين من التمشّي الذي اختاره
الجانب الأول يتمثّل في ضبابيّة الرؤية بخصوص ما بعد المشيشي. والأقرب على الظن هو اعتزامه تعيين رئيس حكومة جديد يُمكن أن يأتمنه أكثر من سلفه. إلا أن ذلك لا يعدو أن يكون بمثابة المغامرة الجديدة، طالما أن التوازن البرلماني يبقى على هذه الدرجة من الانخرام. والحلّ الجذري في هذا المضمار هو دون شك تغيير المشهد البرلماني، وذلك بضغط المجتمع المدني على القضاء لتفعيل مخرجات تقرير محكمة المحاسبات الذي يُمكن أن يُفضي إلى نزع صفة النائب عن ما لا يقلّ عن ثلث أعضاء البرلمان الحالي، ممّا سيؤول إلى انتخابات تشريعية جزئية تُبعد عنه من وصلوا إليه بالمال الفاسد وبطرق غير شرعية. وبذلك يُصبح لدينا برلمان يُمكن التعامل معه، ويُمكن الاعتماد عليه لتركيز المحكمة الدستورية ولتغيير القانون الانتخابي، ولِمَ لا تعديل الدستور
أما الجانب الثاني الغامض في تمشّي الرئيس فهو تصدّيه للإسلام السياسي معتمدا، هو نفسه، على تسييس الإسلام وأسلمة السياسة. فنراه ينكر للمرأة حقها في المساواة مع الرجل في الميراث اعتمادا على نصّ ديني، وهو بذلك يُخالف الدستور في فصلين، الفصل الذي ينصّ على مدنيّة الدولة والفصل الذي يُؤكّد المساواة التامّة بين المرأة والرجل. كما نرى أن المرجعيات التي يعود إليها في خطبه تكاد تكون دائما ذات صبغة دينية، مثل ذكر عمر بن الخطاب، والخضر حسين، والجاهلية، والشهادتين، والصراط المستقيم… في حين لم نسمعه يوما يستشهد بمرجعيات متصلة بالحقوق الكونية للإنسان، ولا برواد الفكر المستنير من تونس ولا من العالم المُتحضّر
فإذا كانت هذه المواقف تعكس أفكاره وتوجهاته السياسية العميقة، فيا خيبة المسعى. لا لأنها مًخالفة للدستور فقط، وهو الذي ما انفكّ يُعيد على مسامعنا مدى حرصه على احترام الدستور، وإنما أيضا وبالخصوص لأن هذا التوجّه لا يختلف كثيرا عن توجّه الجهات التي يتصارع معها
قد يرى البعض أن الخطاب المُتديّن لرئيس الجمهورية إنما هو خطة تكتيكية يُريد بها سحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين. وهنا وجب التذكير بأن زين العابدين بن علي انتهج نفس التكتيك في بداية عهده بالسلطة ولم يفلح. فلقد أنشأ وزارة للشؤون الدينية، وأمر ببث الآذان في الإذاعة وفي التلفزة، وأعاد الاعتماد على الرؤية لتحديد دخول الأشهر القمرية بعد أن تخلّصنا طيلة عقود من هذه العادة المُتخلّفة، إلى غير ذلك من الإجراءات الديماغوجية. وها نحن ما زلنا نُعاني منها
إن الخلاف الجوهري اليوم فيما يخصّ حاضر بلادنا ومستقبلها هو خلاف بين دعاة الدولة الدينية، دولة الخلافة الظلامية التكفيرية العنيفة، ودعاة الدولة المدنية التقدمية الحداثية. أما الصراع بين أطراف من العائلة الواحدة من هذين العائلتين فهو ثانويّ ومضيعة للوقت في الظرف الذي تعيشه تونس اليوم
بقلم منير الشرفي