يمثل النداء للصلاة أو الإعلان عن موعدها عن طريق المؤذن مظهرا طقوسيا يميز تعامل المسلمين مع المقدس في صيغته التعبدية ويجعل من شكل هذا النداء نقلة نوعية في كون الأذان هو أولا تذكير بالشهادة و دعوة للسامع بان يتخذ من وجهة ربه قبلته معبرا عن انه لن يكون بحق خليفة الله على الأرض إلا من خلال قبوله بأنه عبد الله . فبينما يعتبر أتباع الديانات السماوية السابقة للرسالة المحمدية الرب شريكا يبادلهم القول بالرغم من اعتباره لامرئيا أو « أبونا الذي في السماء » يشهد المسلم بان لا إلاه إلا الله وبان محمد ابن عبد الله عبده و رسوله وهو بذلك يؤسس حريته على الإقرار المبدئي بعبوديته و الاعتراف بحدوده وبدينه ( بفتح الدال) و بقدره الذي يجلس دونه. و عن طريق محمد ولغته العربية ينتمي المسلم رمزيا إلى سلالة « سميع الله » اسمعئيل ابن إبراهيم الخليل من هاجر المصرية. فالعروبة هنا لا تحيل على عنصر بشري بل على لسان العرب الذي وقعت ترجمة الوحي الرباني من خلاله إلى كتاب تمكن قراءته من طرف البشر من سماع كلام الله. كما أن نص الكتاب المتكون من آيات و سور له بعد رمزي بوصفه « تعبير » في لغة عرب الحجاز في فترة تاريخية معينة عن واقع إلاهي يتجاوز فهمه ملكة الفهم. وهو ما يجعل كل تفسير له من باب التأويل الضروري و من شانه أن يبعد المؤول والقارئ لتأويله عن كل تفكير إطلاقي الذي قد يسقط كلا منهما في الشرك. فالتوكل على الله الذي يقرره البشر في بدء أعمالهم قد يعني أن خلافة الله تختلف عن نيابته لأنه خلافا لموقع النائب الذي يقال في شانه بان « نائبه كهو » فان الخلافة تتخذ بعدا رمزيا يتمثل في الاتكال على الله والتعويل على الذات في إطار الاجتهاد البشري الذي قد يخطئ أو يصيب وفي كلتي الحالتين للمجتهد أجر مخصوص. فبقدر ما يمثل استخلاف الله لآدم على الأرض تواصل الإبداع بين المعبود والعبد مع اعتبار الفرق المطلق بين المقامين يكون الآمر باسم الله الذي يقدم على تنفيذ أوامره في بقية البشر انطلاقا من الدلالة « الواضحة » والغير القابلة للتأويل لكلمات الخالق في موقع نائب الله على الأرض الذي يدعي « أنه » (العبد الحاكم باسمه) « كهو » (الخالق المعبود) و يسقط في الشرك. فالله أعلى و اكبر من كل المتحدثين والحاكمين باسمه و ليس في حاجة للذين يدعون الدفاع عن دينه من التأويل المغرض والحفاظ على قرآنه الذي أنزله على نبيه وأكد فيه انه سيبقى له حافظا
و بالنسبة لقضية الحال و المرتبطة بتخفيت مضخمات الصوت المعلنة عن مواقيت الصلاة و بعد الأخذ في الاعتبار هذه المقدمة التوضيحية حول البعد الإنساني العميق الذي يميز الدين الإسلامي يبدو لي و أن التطرق لها من باب « التلوث الصوتي » و « الصحة الجسدية و النفسية » للمواطن قد غيب عن الأذهان ضرورة التفكير الجدي فيما طرا على الإسلام من سطو إعلامي يراد منه توظيفه في خدمة مآرب سياسية وذلك بتحويله إلى أداة تجنيد و »تحزيب » بعد تفريغه من أبعاده التحريرية الروحية والمحفزة على الاجتهاد الضروري والمتواصل بالدعوة الصريحة إلى التفكر والتعقل. فالمتأمل في ردود الفعل السلبية التي أثارتها مداخلة الزميلة والأستاذة الكبيرة رياض الشعبوني الزغل تنصب كلها في خانة « الدفاع عن الإسلام بالدفاع عن الأذان » وقعت صياغتها باللجوء إلى نمط تفكيري اقل ما يمكن قوله فيه انه مشوب بالسطحية الساذجة عند المغرر بهم من الشباب والجهلة من الكهول المتعلمين و بالانتهازية السياسية السافرة بالنسبة للبعض. فبينما تعلن طالبة تنكرها لرياض الزغل بالرغم من كونهما تنتميان لنفس المدينة يلاحظ احد الولاة القدامى (والذي كان واليا على هذه المدينة في السنوات الأولى من التغيير) أن مداخلة المستشارة المحترمة و تعليق وزير الشؤون الدينية عليه يدخل في باب الحفاظ على مواقعهما في السلطة معلنا بطريقة سافرة مساندته للذين يبتغون استعمال الايديولجية الاسلاموية (السائدة في اغلب بلدان المشرق) مطية سهلة لكسب قلوب الناس « بتبليد » عقولهم و ثقة الجهات المتآمرة على الإسلام المشجعة للجهلة من بين المحسوبين عليه
و بقطع النظر عن أحقية المطالبة بتخفيت أصوات المضخمات أو اعتبارها « منعا للأذان » كما « زايد به » احد المتداخلين على الفايسبوك ما يمكن قوله في ظاهرة تمرير الأذان بمضخمات الصوت ابتغاء لفاعلية النداء أنها في حد ذاتها تتسبب في تغيير نوعي لما ميز النداء الإسلامي للصلاة إلى حدود استعمال المضخمات. فالأمر الذي من واجبنا التذكير به اليوم هو ذاك البعد الرمزي العميق بإبعاده الإنسانية وبدلالته الدينية والسياسية الثورية التي اتصف بها نداء الحبشي بلال إلى الصلاة الجماعية الأولى بمسجد المدينة الذي لم يقع بناؤه بعد. ف »الصورة المرجع » للنداء الإسلامي للصلاة تختلف جذريا عما تعود عليه اليهود والنصارى من نفخ في الأبواق و ضرب للنواقيس وهي طرق تتصف بتجريديتها وكأنها تختزل النداء للصلاة في تنقيط ديني للزمن دون اعتبار لكيفية تقبل النداء من طرف سامعيه. أما بلال الذي حرره الإسلام من عبودية البشر للبشر فقد قام و بأمر من الرسول بنداء من حوله من المهاجرين و الأنصار إلى الصلاة بالبدء بالشهادة مؤكدا بالقول انتماءه للدين الإسلامي المحمدي و داعيا سامعيه للصلاة المشتركة و الجماعية الجامعة. فالأذان في جوهره يبدو تذكيرا بمواقيت الصلاة لا يصل إلى حد الأمر أو إجبار السامعين على القيام بها بالرغم من كونها من الأركان الخمس. فكل الشعائر التي يقوم بها المسلم لا تكتمل الغاية منها إلا بشرط النية وهذه الأخيرة لا يتمكن من عقدها إلا الإنسان الحر الآمر نفسه بالحلول في عمله عن طريق الإقبال المسئول دون ترغيب و لا ترهيب
وحتى إذا ما اعتبرنا أن زمن بلال قد ولى و أننا نعيش اليوم عصرا يتميز بإضافة الإنسان إلى أعضائه و جوارحه المختلفة آلات متطورة لم يسبق للبشرية أن عرفت مثلها تسمح بتضخيم الأصوات و تسجيلها ونقلها وبثها على الأثير فان الآمر لا يتعلق بالنسبة للأذان بعملية « إعلام » بحلول موعد الصلاة بل بتذكير تكمن أهميته في كونه خطاب يقوم به مسلم يبدأه بإعلان شهادته على الملا قبل أن يدعو غيره من المسلمين إلى القيام بفريضة الصلاة . وإذا ما سلمنا بان للأذان بعدا « إعلانيا إخباريا تنبيهيا » ستبقى مجانية استعمال مضخمات الصوت مطروحة لأنه يمكن الاستغناء عنها باستعمال الإذاعة و التلفزة والصحافة المكتوبة و هو ما يجري به العمل حاليا
ما ضر لو فتحنا في معاهدنا أللمتخصصة في تعليم الإسلام ومبادئه السمحة و شعائره المروضة للنفوس قسما جديدا يهتم بتدريس الأذان على قواعد موسيقية أصيلة تحبب الصلاة الإسلامية للمسلمين و لغير المسلمين باعتبار الأذان ظاهرة ثقافية وتعبيرا عن الأساس الروحاني للإسلام خصوصيته في كونه مؤنسا مؤنسنا لعلاقة العبد بالمعبود. و عندها سيعي الجميع بان الصوت الجميل عندما يكون صاحبه صادقا و عارفا بفنه في أدائه للأذان ليس بحاجة إلى تضخيم و انه إذا ما استمر الحال على ما هو عليه الآن سيستوي الأمر بين مهرجي الأعراس و مؤذني المساجد……..وا إسلاماه
الناصر بن الشيخ