بلادنا أصبحت على مشارف الإفلاس، وقد وصلت نسبة النمو الاقتصادي إلى 9% سلبي، ونسبة البطالة إلى 16%، ونسبة العجز في ميزانية الدولة إلى 13,4%، ونسبة الدين العمومي إلى 90% من الناتج الخام الخ… ممّا يعني أن الدولة التونسية أضحت مُبوّبة للاستعمار
إلى جانب ذلك، تتعالى أصوات الاحتجاج الاجتماعي الذي طال كافة القطاعات وكافة الجهات، وعادت النعرات الجهوية لتطفو على السطح حتى خلنا أننا قاب قوسين أو أدنى من نشوب حرب أهلية بعد أن كنا نظن أن عقلية العروشية قد ولّت بدون رجعة
أما عن البنية التحتية فحدث ولا حرج. فالمدارس والمستشفيات والطرقات ووسائل النقل العمومي… كلها أصبحت منذ سنوات فاقدة للحد الأدنى للصيانة، إلى أن أصبح داخلها مفقودا وخارجها مولودا. فهذه بالوعة تبتلع فتاة مارّة في الطريق، وهذا مصعد يبتلع طبيبا أثناء عمله، وهذه حافلة تُقلّ 52 راكبا تسقط في حفرة في الطريق
وفي الأثناء، طبعا، يواصل الإسلام السياسي تقدّمه بخطى تبدو بطيئة لكنها ثابتة، فنجد نائبا يصف المرأة التونسية بنعوت أرفض تشويه مقالي بذكرها، ونجد صاحب إذاعة ممنوعة يصف المرأة بآلة إنجاب ويدعو إلى تزويجها منذ سن الرابعة عشر، ونجد رئيس بلدية يُغلق مقر رابطة حقوق النسان ليُعوّضه بجمعية قرآنية على غرار مدرسة الرقاب
خلاصة القول هي أن الدولة أُصيبت بالصمّ والبكم أمام كل هذه الأزمات وأصبحت عاجزة تماما، لا عن تنمية البلاد، بل إنها عاجزة حتى عن تسيير شؤونها اليومية الحياتية
الحلول لهذه المعضلات، المُتعددة والمُتنوّعة والخطيرة، جذريّة أو لا تكون. ولقد تعددت في الآونة الأخيرة مبادرات للخروج من الأزمة من طرف منظمات وأحزاب وجمعيات وأشخاص. وهي مبادرات تصبّ في مجملها في اتجاه « الحوار الوطني »، على غرار ما حدث في تونس سنة 2013، عندما فقدت السلطات القائمة آنذاك مشروعيتها
واقتراح العودة إلى « الحوار الوطني » بعد ثماني سنوات هو في اعتقادي وصفة خطيرة جدا لسببين
السبب الأول هو أن نجاح تلك الوصفة كان محدودا، إذ أنها أنهت ظاهريا الأزمة التي كانت قائمة آنذاك، ليعود الوضع سريعا إلى ما كان عليه، بل أنه تفاقم بشكل مُفزع. فكانت الوصفة بمثابة المسكنات الغادرة التي يأخذها المريض والتي توحي بالشفاء دون أن تقضي على الداء الذي يستفحل في الأثناء. فبعد أن أُطردت الترويكا من الباب، عادت من الشباك في ثوب جديد وتواصل معها هتك مفاصل الدولة
أما السبب الثاني فيتمثّل في أن الحوار الوطني يقتضي تشريك الجميع، بمن فيهم بالخصوص أولئك الذين تسبّبوا بشكل مباشر في انهيار الدولة وفي تفكيك مؤسساتها وإفلاس الخزينة وزرع الإرهاب والفساد والفوضى في البلاد. فهل يمكن لعاقل أن يبحث عن الحل عند المُتسبّب في المشكل؟ طبعا لا
لنتفق أولا على أن المعضلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي نعيشها اليوم في تونس ما هي إلا نتيجة للمعضلة السياسية الكبرى المُمثّلة في النظام السياسي الذي أسّس له الدستور، وما يتبعه من قوانين هجينة، منها بالخصوص القانون الانتخابي، وما انجر عن سياسات السلطة القائمة ذات ثلاثة رؤوس من تشجيع للإرهاب وللفساد، سواء بالفعل أو بالصمت. ولعل الإشكال الأكبر في هذه السياسة يتمثّل في الأسلوب الممنهج في التعاطي مع الجرائم الخطيرة بتوخّي سياسة الإفلات من العقاب
فهل يُمكن لدولة أن تبقى حيّة إذا كان مُجرموها يتمتّعون، لا فقط بالحرية، وإنما هم يتمتّعون بالسلطة وبالحصانة
في النظام البرلماني-الحزبي، الذي هو نظام دولتنا، يتمتّع مجلس النواب بأقوى سلطة في البلاد. فهي ليست بسلطة تشريعية فحسب، وإنما تصل رقابتها على الحكومة إلى حد التحكّم فيها بشكل مُبالع فيه. وهذه السلطة أظهرت، في السنة الماضية بالخصوص، من الفوضى والعنف والتكفير والصمت عن الإرهاب وإعلاء المصالح الشخصية والحزبية والأجنبية ما يُفقدها كل مشروعية
غير أن حلّ البرلمان لا يُمكن بالطرق السلمية والدستورية، وهو ما يجعل رئاسة المجلس وأربعة أخماس أعضائه في اطمئنان كامل على مواقعهم وعلى « حقّهم » في التعنيف وفي التكفير وفي السب والشتم وفي الاستهزاء بمصالح البلاد ومستقبل الشعب
غير أن الحل موجود، ويكفي الانتباه إليه والكف عن سياسة الإفلات من العقاب. ألم تًصدر محكمة المحاسبات تقريرها حول الانتخابات الأخيرة والذي يُدين صراحة حوالي نصف النواب لاستعمالهم المال الفاسد والإعلام الفاسد وما إلى ذلك من ممارسات لاقانونية تُصنّف بالجرائم، ممّا يُؤدّي إلى نزع صفة النائب عن حوالي نصف النواب الحاليين. على أن هذا الإجراء القانوني البحت من شأنه أن يُزيح النواب الفاسدين، حسب محكمة المحاسبات، ممّا ينجرّ عنه منطقيا انتخابات تشريعية جزئية، واستعادة المجلس النيابي هيبته ودوره الطبيعي. وبإمكان المجلس الجديد مراجعة الدستور والقانون الانتخابي
أما إذا لم تتوفّر الإرادة السياسية والقضائيّة للقيام بهذا الإجراء، فيُستحسن إغلاق محكمة المحاسبات التي لم يعد لها أي دور، وإقامة صلاة الجنازة على دولة القانون والمؤسسات
منير الشرفي