نسمع من حين لآخر منذ سنوات عن مبادرات لتوحيد اليسار المُتشتت، آلت جميعها إلى الفشل. وقد يعود فشل بعض تلك المحاولات إلى إصرار عدد من المُبادرين على الحفاظ على زعاماتهم، لكن الأمر أعمق من ذلك
فاليسار التونسي منقسم منذ منتصف القرن الماضي حيث كان جزء منه موالٍ للاتحاد السوفياتي ويُمثّله في تونس « الحزب الشيوعي التونسي » الذي غيّر اسمه، بعد تخلّيه عن بعض مبادئ الشيوعية مثل دكتاتورية البروليتاريا، ليُصبح « حركة التجديد »، ثم « حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي ». وأما الجزء الثاني فكان أكثر تطرّفا وموالٍ للصين الماويّة، وكانت تُمثّله « حركة برسبكيف »، التي كانت مُعتدلة عند إنشائها سنة 1963 قبل أن تُصبح أكثر تجذّرا في نهاية الستينات وتأخذ عنها المشعل في بداية السبعينات حركة « العامل التونسي » التي تفرّع عنها العديد من الأحزاب والحركات الصغيرة، أذكر منها بالخصوص « حزب العُمّال » و »الوطنيون الديمقراطيون » (الوطد) و: الحزب الاشتراكي
انقسامات اليسار ليست إذن بالجديدة في تونس. وهي في كثير من الفترات التاريخية كانت تتأثّر بتقلبات اليسار في العالم، من البولشفيّة، إلى « الثورة الثقافية » الماوية، إلى سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي
المفهوم التقليدي لليسار يُمكن تلخيصه باختصار شديد في المبدأ المُدافع عن الطبقة الشغيلة وعلى الفقراء عموما في مواجهة الليبرالية الاقتصادية والرأسمالية التي تُمثّل اليمين. غير أن الصراع بين هذين الطرفين لم يعد بالوضوح الذي كان عليه قبل الثمانينات من القرن العشرين، سواء في تونس أو في أكثر بلدان العالم. والأسباب في ذلك التحوّل عديدة، أذكر منها اقتراب اليمين من الوسط بفضل ضغوط اليسار عليه وبفضل نضال النقابات، حتى أن أصحاب رؤوس الأموال أصبحوا مقتنعين بوجوب الأخذ في الاعتبار لحاجيات منظوريهم ولحقوق العملة حيث أصبحت لدى جلّهم القناعة بأن اليد العاملة لا يُمكن أن تكون مُنتجة إلا إذا حصلت على حقوقها وعلى الحد الأدنى من الرفاهة. كما أن اليسار اقترب من الوسط بعد أن أصبحت لديه القناعة بأن رأس المال يُمكن أن يكون وطنيّا وأن وجوده ضروري لبعث الاستثمار وخلق مواطن الشغل
هذان التقاربان في اتجاه الوسط خلق توجّها جديدا تسير فيه اليوم، ومنذ بضعة عقود، عديد الأنظمة السياسية في عديد الدول المُتقدّمة. ناهيك أن الحكومة الفرنسية مثلا، ومنذ عشرات السنين، أصبحت تضمّ وزراء من أحزاب اليمين ومن أحزاب اليسار في آن واحد. أكثر من ذلك، فإن المواطن الفرنسي، غير المهتم كثيرا بالسياسة، لم يعد يهتم بانتماء رئيسه إن كان من اليسار أو من اليمين لأنه لم يعد يلاحظ تغييرا يُذكر في حياته اليومية بتغيير الانتماء الحزبي لرئيس الجمهورية
أما اليساريّون التونسيّون فنجد الكثير منهم مَن ما زال إلى اليوم يُحلّل الأوضاع من منطلق طبقي ويُدافع عن برامج سياسية بمنطق يسار سبعينات القرن الماضي. أذكر في هذا السياق أن أحد اليساريين كان واقفا بجانبي في اعتصام الرحيل الذي انتظم في أوت 2013 بباردو للمطالبة برحيل حكومة الترويكا التي كان يقودها الإخواني علي العريض. هذا الصديق قرّر مقاطعة الاعتصام فجأة عندما بلغ إلى علمه أن المرحوم الباجي قائد السبسي حضر إلى ساحة باردو وينوي إلقاء كلمة في الجموع الغفيرة. وكان الباجي آنذاك بصدد تكوين حزب « نداء تونس » الذي تأسس في الأصل لمناهضة التيار الإخواني الذي تُمثّله حركة « النهضة » وأتباعها، قبل أن يتحالف معها. هذا اليساري كان يُفسّر مُعارضته للحزبين (النداء والنهضة) على حدّ السواء لأن كليهما يميني ليبرالي وأنه يجب التصدّي لهما بنفس القناعة وبنفس الحماسالشيء الذي فات هذا الصديق هو أن مفهوم اليسار لسبعينات القرن الماضي لا يُمكن أن يتطابق مع مفهوم اليسار للقرن الحادي والعشرين. وهنا تكمن نقطة الخلاف بين تياري اليسار في تونس اليوم
ذلك أن مفهوم اليسار هو مفهوم مُتحرّك ومُتطوّر. هذا التطوّر هو الذي يُمكّنه من البقاء والدوام. كثير من الأصوات تقول بصوت عالٍ بأن اليسار قد مات وانتهى تماما، لا في تونس فقط بل وفي العالم بأسره. وهذا، في اعتقادي، غير صحيح. فاليسار الذي مات وانتهى هو اليسار الجامد، اليسار المُتزمّت، اليسار الذي يرفض التطوّر. وهو ما يُمكن تسميته باليسار السلفي أو الأصولي. أما من يعتبر أن اليسار قيمة فكرية صالحة لكل زمان ومكان، تعتمد على سياق « الآن وهنا » فإن عليه الأخذ في الاعتبار ما تعيشه تونس سنة 2020
والصراع الفكري والمبدئي الحقيقي الذي تعيشه بلادنا اليوم هو صراع بين الوجود والفناء، بين الوطنية والعمالة، بين النزاهة والفساد، بين التقدّم والتقهقر، بيم الحداثة والرجعية، بين الدولة المدنية العصرية ودولة الخلافة التيوقراطية
الأكيد أن اختلافات أخرى عديدة تبقى قائمة. وعلى أهميّتها فهي تُعتبر ثانويّة بالمقارنة مع الاختلافات الجوهرية الحياتية. لكن الصراع على واجهات عديدة لا يُمكن أن يُثمر، والدليل على ذلك هو ما تكبّده اليسار التونسي في كل المعارك التي خاضها في السنوات الأخيرة
وعملا بالمقولة الماركسية-اللينينيّة « يمكن التحالف مع الخصوم الثانويّين في انتظار القضاء على الخصم الرئيسي »، فإنه من واجب اليسار اليوم أن يتصارع ضد التيار الرجعي الديني المُتحجّر الذي ينخر أسس الدولة ومؤسساتها، مع وجوب وضع اليد في اليد مع مُناصري الدولة المدنية المُتحضّرة الحداثية التي تؤمن بالديمقراطية والعدالة وبالمساواة وبحقوق الإنسان الكونية
منير الشرفي