كنّا تعلّمنا في مقاعد الجامعة و علّمنا طلبتنا من بعدنا أنّ كلّ فنّ إبداع و ليس كلّ إبداع فنّا فالعدول عن المألوف و الخروج عن العادة إيجابيّ أو لا يكون و إلاّ فما أسهل الخروج عن العادة. و في بلادنا يسعى الناس إلى الإبداع و يراكمون الغثّ و السّمين في صمت غربال نقديّ مقعور. و تفاقم الأمر بعد « الثورة » عندما أمسكت السلطة الرابعة و خاصّة منها الإذاعة و التلفزة بزمام النقد واحتكرت المصعد إلى الشّهرة و التّشهير، ترفع من تشاء و تضع من تشاء. و اغتنمت « كاكتوس » الفرصة فركبت على الموجة الحداثيّة الغربيّة في الخروج عن المألوف في تجديد الإعلام القائمة على فلسفة جديدة تتمثّل في أن نتّخذ من المواطن العاديّ بطلا إذاعيّا و تلفزيّا فكانت هذه الموجة من « دمقرطة » الإعلام بعد احترام القلم و الصوت و الصورة و كانت هذه السلسلة من البرامج التلفزية المستوردة « دليلك ملك » و « أمور جدّية » و « لاباس » و « نهار الأحد ما يهمّك في حدّ » و « عندي ما نقلّك »…و قام التنشيط على كسر القيود و الحدود و الخروج عن العادة فغاب العلم و غاب الذكاء و غابت الإفادة و انتقلت « البلادة » و « الرموزيّة » من الأسواق و المقاهي و الشوارع إلى الإذاعات و التلفزات بحضور جمهور في الاستوديوهات مجبور على الضحك و التصفيق و جمهور في المنازل قد يضحكه مشهد و تبكيه مشاهد، و تحوّل متعاطو الضمار في الشوارع إلى نجوم الإعلام و عمالقة الفنّ و رأس مال الثقافة و بات من الجهل و العار عليك أن لا تعرف سلام موسيو و البجعة حنان الشقراوي و الأخوين عبد الرزاق و علاء الشابي و نوفل الورتاني و غيرهم بقيادة زميمهم سامي الفهري المموّل للرداءة و المروّج لها في سوقٍ مالُها وفير و ذوقها عديم و ربّما ظنّ هؤلاء أنّهم يبيعوننا ضحكا في الزمن الحزين و ما يدرون أنّهم يبيعوننا ضحكا مبكيا و إعلاما فارغا و تهريجا سخيفا و فنّا رخيصا ممسوخا. فإلى متى سيظلّ النقد صامتا متهاونا في الاضطلاع بواجبه في الفرز بين اللبّ و القشور و إلى متى يظلّ متقبّلا لهذه المقاييس للشهرة و للقيمة و للبطولة و للنجوميّة القائمة على جذوع خاوية و كأنّ هذه الأرض المعطاء أمّ عاقر لم ينبت في تربتها فنّ و لا إبداع
الدكتور الهادي جطلاوي