ما بين الدين و السياسة ، مرّة أخرى

أنا واحد من عديد الرافضين لقيام الدين السياسي في تونس و البلاد العربيّة وهو نظام في الحكم رزح الغرب تحت وطأته قرونا و بيّن التاريخ في الغرب محدوديته و فشله فشلا طواه إلى غير رجعة و كان ذلك سببا من أسباب تقدّم الغرب و مدنيّته. و الدين السياسي ظاهرة دخيلة على سماحة إسلامنا و تراثنا 

الهادي جطلاوي

الهادي جطلاوي

 في تونس اكتسحت الساحة السياسيّة في مناخ من الفوضى في 2011 سمح لها بالانتصاب و الانتشار. و لقد كتبتُ في رفض الإسلام السياسي نصوصا عديدة بدوتُ فيها لبعض الموالين له غير موضوعيّ و بدوتُ متحزّبا عليه رغم أنّني صرّحت بعدم انتسابي إلى أيّ حزب سياسيّ و لو رأيتُ فيها حزبا صالحا لما تردّدتُ في الانتماء إليه. و رغم ذلك فإنّ من أوكد الأولويات في العمل السياسي، في اعتقادي، هو فصل الدين عن السياسة
و إنّي أرى أنّه لا يليق بمن ينسب نفسه إلى صفّ المثقّفين و المتعلّمين أن يكون مناصرا للدين السياسيّ و أنّ وجوده و شيوعه علامة من علامات التخلّف و تدهور المستويين التعليمي و الثقافي و أنّ التحليل العلميّ و الموضوعي يفضي إلى الإقرار بأنّ الدين لا يمكن أن يكون مجالا للتباري السياسيّ. فالدين لله وهو في قلوب الناس يتلقونه على الفطرة، و تعاليم الدين إنّما هي إطار أخلاقيّ عامّ قائم على التوحيد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يخترق العصور جميعا تترجمه البشريّة ترجمة تختلف باختلاف العصور و تتعدّد بتعدّد الثقافات. بينما تتمثّل السياسة الدّنيويّة، في إعداد البرامج و سنّ القوانين الضامنة للرفاهيّة و التعايش السلمي
و في الوقت الذي تكون فيه العلاقات السياسية بين الأحزاب علاقات بشريّة أفقيّة يكون التباري فيها حول مشاريع بشريّة متساوية تكون العلاقات الدينيّة بين الخالق و المخلوق، على خلاف ذلك، علاقات عموديّة استعلائيّة قائمة على السمع و الطاعة و على الابتلاء في الدنيا و الجزاء و الحساب في الآخرة، فكانت العلاقات الدينيّة ثنائيّة بين العبد و ربّه لا وساطة فيها و لا دخل لرجال السياسة بل حتّى لرجال الدين فيها و ما رجال السياسة و الدين في هذه العلاقة إلاّ بشر يخطئون و يصيبون مثل سائر البشر لا فضل لهم على غيرهم و لا سلطان لهم عليهم و لا دخل لهم فيما فيه تكليف و حساب يوم تُبلى السرائر
فلا تبقى في سياسة المجتمع البشريّ إلاّ سياسة العمران بما يضمن المبادئ العامّة لحقوق الإنسان من حرّية و عدالة و كرامة و غيرها و في ذلك يمكن لحزب النهضة أن ينخرط بمشروع مدنيّ لسياسة المجتمع أمّا أن يكلّف نفسه بحمل لواء الإسلام بتصوّر سلفيّ للإسلام يدّعي اقتصادا إسلاميا أعرج محرّما للرّبى و بنوكا إسلاميّة و زكاتية و أحباسا و أوقافا و ثقافة إسلاميّة سلفيّة عرجاء ممزّقة بين الماضي و الحاضر لا مستقبل لها، فيها استغلال لبساطة العقول و تَشْيِئة للمرأة و تجفيف لمنابع الإبداع الفنّي الذي تتحقّق فيه إنسانيّة الإنسان و تدجين للفكر البشري و زرع لروح التخاذل و القضاء فذلك ليس إلاّ استغلالا للمشاعر الدّينيّة للقطع مع العصر و مع الحداثة يرجعنا القهقرى إلى الإقناع من جديد بخطاب القرن التاسع عشر الإصلاحيّ لبيان الفرق بين الاعتزاز بديننا و تراثنا من جهة و ضرورة انفتاحنا على المدنيّة و على الغرب انفتاحا منهجيّا و علميّا و حضاريّا كفيلا بإلحاقنا بصفّ الشعوب المتقدّمة الذي ما قطعنا فيه شوطا حتّى جذبنا الإسلاميون دونه أشواطا يتاجرون بالدين يشترون به ثمنا قليلا
قد يجد بعض التونسيين اليوم في الانتماء إلى الدين السياسي مصلحة ظرفيّة دون أن يقدّر عواقب هذا التوجّه السياسي الدخيل علينا على الأمد المتوسّط و البعيد و قد يصدّق بعض الطيّبين تحوّل هذا التحزّب الديني إلى تحزّب مدنيّ و الحقيقة أنّ المتاجرة بالدين تجارة يسيرة و رابحة ربحا يصعب التفريط فيه و أن ليس وراء النعرة الدينيّة في مجتمع مسلم، إلاّ الظلاميّة و التفرقة بين أفراد شعب مِن مِنن اللهّ عليه أنّه متوحّد في اللغة و الدّين. و أنّه من واجب العلماء و المؤسسات التربويّة و الثقافيّة، اليوم، التعاون، من جديد، على إرجاع التوازن للمركب التونسي و توجيهه التوجيه السليم نحو شاطئ الأمان. و ليس ذلك على الله بعزيز

بقلم الدكتور الهادي جطلاوي