الكُتّاب من صيغ الجموع القلائل الدّالّة في العربيّة على الموضع المفرد و جمعه الكتاتيب حتّى أنّ المبرّد قد خطّأ من ذهب إلى ذلك. قال: » و مَن جعل الكتّاب الموضعَ

الهادي جطلاوي
فقد أخطأ »(اللسان) فكان « الكتّاب » مجازا مرسلا دلّ فيه المحتوَى على المحتوِي فسمّي الكتّاب كتّابا لاحتوائه الكتّاب من الكتبة الصبيان يكتبون القرآن الكريم. و حفظ القرآن و كتابته منهج راسخ في تلقين العلوم عند العرب منذ غابر الأزمان. و اختصر ابن خلدون فصل الخطاب في الابتداء في العلم بحفظ القرآن باعتبار القرآن »شعار الدّين » و « أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعدُ من الملكات و سبب ذلك أنّ التّعليم في الصغر أشدّ رسوخا.. »(المقدّمة. الباب6 الفصل 31). و هذا الاعتبار للقرآن في تونس المسلمة لا مزايدة فيه اليوم مهما تطوّرت أساليب التكوين المعرفي. و لكنّ الأهداف من تعليم القرآن و منهجيته و مضمونه هي التي كانت منذ القدم محلّ اختلاف و اجتهاد في كامل العالم الإسلامي مثلما فصّله ابن خلدون في الفصل المذكور. و الذي يعنينا اليوم في بلادنا أنّ الكتّاب يضطلع بإنارة صدر التونسي الصغير بكلام الله يحفظ منه النصيب الذي تسمح به الحصّة المخصّصة للقرآن حفظا لا يفقه دلالته بقدر ما يحسّ بجلال نظمه و جمال لفظه يبعث فيه وقرا ووقارا و إحساسا بروح العربيّة و عبقريتها المساعد له لاحقا على يسر تعلّمها و كتابتها و التفنّن في أساليبها. و ما زاد على هذا الحفظ و إرهاف الحسّ فتخمة في غير محلّها ضررها أشدّ من نفعها
و في هذا العصر الشقيّ الذي يشقينا بالمزايدة في الدين في بلاد الإسلام فإنّ من واجب « المؤدّب » أن يتحلّى بالموضوعيّة التّي تمنعه من دسّ السموم السياسيّة في حفظ كلام اللّه. فقد كان « الكتّاب » في سابق العهد ذكوريّا و وجب أن لا نحرم البنت اليوم من تعلّم القرآن مع الذكور في كتّاب مختلط يختلط فيه الصبيان الأنثى بالذكر في جوقة إنشاديّة واحدة و هيئة تونسيّة واحدة. و قد احتضن الكتّاب في بدايات الاستقلال أعمارا متفاوتة سمحت بكتابة الألواح يكتبها الكبار للصغار و الحقّ أنّ الحفظ كان قائما أساسا على الشفويّة و الترداد المنشد و كان متدرّجا من القصير إلى الأطول من السور. و لمّا استوى الصبية اليوم أو كادوا في جهلهم بالكتابة و القراءة في سنّ الكتّاب جازت الاستعانة بالوسائل السمعيّة البصريّة الالكترونيّة الحديثة استعانة خالية من الرسائل السياسيّة الموجِّهة إلى لون مخصوص من ألوان الفكر و السلوك في كلام أو سلام أو لباس أو طعام ..و ما إلى ذلك من الدسائس التي لم تعد خافية على أحد
و منهجيّة تعليم القرآن الكريم و محتواه و فضاءاته أمر موكول إلى وزارة التربية و مصالح الطفولة فكلاهما مسؤول عن الشروط الواجب توفّرها في المكان اللاّئق بتعليم القرآن و كلاهما مسؤول عن الشروط العلميّة و الأخلاقيّة الواجب توفّرها في « المؤدّب » أو « المؤدّبة » و أعظم الخطر الذي كان يحفّ بالكتاتيب سابقا و ما زال يعشّش فيه إلى اليوم و لا أظنها ستسلم من بلواه مستقبلا هو التحرّش بالصغار عجينة هشّة طريّة بريئة معزولة السلاح تلطّخها بقذارة ودناءة لا تبرأ منها أبدا
الدكتور الهادي جطلاوي