أربكت القرارات الرئاسية الصادرة يوم 25 جويلية الفارط حركة النهضة الإخوانية إرباكا شديدا ظهر في مواقف راشد الغنوشي منذ ذهابه ليلا إلى مجلس النواب حتى تصريحه الأخير في مجلس الشورى الذي اتجه فيه إلى اعتبار أن ما حدث يندرج في إطار الانتقال الديمقراطي بعد أن كان انقلابا، كما ظهر هذا الارتباك في المواقف الصادرة عن بعض القيادات والأسماء التي وصل الأمر ببعضها إلى الانسحاب من مجلس الشورى والتصريح بعدم تحمل مسؤولية المواقف التي قد يتخذها، ومن الجدير بالملاحظة أن ما يبدو أنها خلافات عرفتها الحركة منذ أن كانت في السرية وتمحورت جميعها حول نقد أميرها كما كان يسمى أيامها إلا أن ظروف السرية والتكتم حجبت هذه الخلافات عن أن تنتشر ويذاع خبرها ليتم حلها بقرارات إدارية وأشهرها محاولة ما سمي فيما بعد اليسار الإسلامي الذي سعى إلى افتكاك مكتب العاصمة وهو أكبر مكتب في الحركة عن طريق عملية انقلابية أعدّ لها احميدة النيفر ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن إذ تفطن لها الغنوشي لأنه هو الآخر صاحب فكر انقلابي ومرّ بتجربة في حزب انقلابي بامتياز هو البعث السوري، عندها أطرد المجموعة كاملة وأحال ملفها إلى عبد الفتاح مورو الذي ترأس لجنة لم تنه أشغالها إلى حدّ الساعة وقد روى الواقعة الجورشي في نصّ عنوانه « لا تأخذوا التاريخ من ألسنة السياسيين » جاء فيه: « والذي لم يعش داخل الحركة يستنتج من كلام الشيخ (عبد الفتاح مورو) أن الحركة ولدت ديمقراطية وبالتالي كل من خرج منها واختلف معها كان لا ديمقراطيا ولم يتحمل أو لم يحترم أصول وقواعد الحوار! ولا أعتقد أن صاحبنا قد نسي أن الحركة بقيت سنوات طويلة بلا قانون أساسي ولا تحديد للصلوحيات وترى في أي خلاف شرا وتعتبر نفسها الجماعة ويملك أميرها الذي لم ينتخب كل الصلوحيات في تشكيل المكتب التنفيذي والمشرفين على الجهات وأعضاء مجلس الشورى! ولا أظنه قد نسي تلك الليلة المخزية التي وقع فيها حلّ مكتب العاصمة وتجميد عضوية المشرف عليها لا لشيء إلا لأن العاصمة حاولت أن تقود حركة إصلاح وتجديد في جسم إخواني يختنق »(1) كما تعرّض صالح كركر إلى الطرد من الحركة بسبب منازعته الغنوشي واتهامه إياه بالضلالة والطعن في شرعيته وقد روى ذلك الدكتور أحمد المناعي في نصّ خلص فيه إلى القول: « بعد نفيه من جزيرة وسانت والذي نذكر أنه تزامن مع طرده المؤجل (الإعلان عن قرار الطرد من الحركة صدر بعد عشر سنوات من الطرد الفعلي) تعرّض كركر إلى ما يسمّى في أوساط النهضة بالضرب بأسلحة الدمار الشامل التي تعني المقاطعة الكاملة له ولعائلته ولأقاربه ولأحبابه في كل المجالات وعلى كل الأصعدة من جميع أعضاء النهضة بلا استثناء »(2) ما تعرّض له احميدة النيفر وصالح كركر تعرّض له حسن الغضباني في مرحلة تأسيس الجماعة الإسلامية حيث حاول الغنوشي إرساله إلى أستراليا للدعوة ولمّا رفض مُنع من اعتلاء المنابر للخطابة وشُنّت ضدّه حملة وُصف فيها بأقذع النعوت فغاب عن الساحة الإسلامية تماما إلى وفاته رحمه الله(3)
تلك هي أهمّ الخلافات التي جدّت في الحركة والأسلوب المعتمد لحلها أيام كانت في السرية وهي خلافات حول القيادة وأسلوب التسيير أمّا اليوم وبعد حصولها على الشرعية وانتصابها للحكم عادت الخلافات القديمة خصوصا بعد أن أصبحت القيادة قادرة على توزيع المغانم والمناصب التي اختصت بها العائلة وأصحاب الولاء المطلق لتظهر بذلك أسماء جديدة شعرت بالضيم والظلم فاستنسخت الخلاف القديم الذي وجد له حلاًّ في وعد من الغنوشي بعدم الترشح لدورة أخرى بعد المؤتمر العاشر، ولكن ما حصل هو إصراره على البقاء وهو ما أدى إلى خروج أُسَمِّيهِ خروجا مؤقتا من الحركة شمل بعض الأسماء كلطفي زيتون وعبد الحميد الجلاصي وزياد العذاري غير أن الغنوشي في تعامله معهم لم يلجأ إلى الطرد كما صنع سابقا لاعتقاده بأنهم لا يمثلون خطرا على موقعه في القيادة لذلك تركهم يسرحون في الطبيعة إلى أن حلت المصائب على رأس الحركة يوم 25 جويلية دفعة واحدة بين تجميد البرلمان من ناحية والرفض الشعبي ممثلا في حرق مقراتها من ناحية أخرى، وبما أن التحشيد الذي دعا إليه الغنوشي ليلا لم ينجح وأظهر ما عليه حركته من ضعف وهوان فإن عددا من منتسبيها فضلوا القفز من المركب قبل أن يغرق فأصدروا بيانات مساندة لتفعيل الفصل 80 أو الانسحاب من اجتماع مجلس الشورى أو الدعوة إلى انسحاب القيادات القديمة وتعويضها بشبان، وفي تقديري أن جملة هذه البيانات لا تعبر عن موقف مساند لإجراءات الرئيس بقدر ما هي محاولة للخلاص الفردي ممّا يمكن أن يترتب على فتح ملفات الحركة لأن هؤلاء الذين يظهرون اليوم اصطفافهم مع ما طالب به الشعب كيمينة الزغلامي وعماد الحمامي ومنية إبراهيم وجميلة دبش الكسيكسي كانوا من الأعوان المستميتين في الدفاع عن كل سياسات الغنوشي طوال السنوات العشر الفارطة ونفذوها بحذافيرها ولم نسمع لهم صوتا معارضا أو حتى ناقدا بصمت وحتى خفية لكبرى الجرائم التي ارتكبت في حق البلاد والعباد
أين كان هؤلاء أيام سُفِّر أبناؤنا إلى سوريا وغيرها من بؤر التوتر وأين كانوا لمّا افتضح أمر بؤرة الرقاب ألم يدافعوا عن إمامة المتطرفين كالجوادي والبشير بن حسن وقد وصل الأمر بالحمامي إلى القول بأن أمننا الديني اعتدي عليه لأن الجوادي عُزل من جامع سيدي اللخمي ويمينة الزغلامي ألم تزمجر في المطار مطالبة بتمكين إرهابي من السفر رغم المنع القانوني (أس17) ثم الكسيكسي وما صنعت في البرلمان من تلفظ بالنابي من الكلام والساقط من القول أما منية إبراهيم فقد تجرأت على شيخ في سن والدها بقولها له أنا أرجل منك، هذا الذي صدر عنهم من بيانات ذكرني بذلك السيل من الاستقالات التي نشرت في الصحافة بعد جريمة باب سويقة سنة 1991 حاملة أسماء قيادات من وزن عبد الفتاح مورو والفاضل البلدي ونور الدين البحيري وبن عيسى الدمني ومحمد المومني وغيرهم كثير
هكذا يعيد منتسبو الحركة التاريخ نفسه يرتكبون الجرائم ثم يعلنون تبرؤهم منها ثم يعودون بعد ذلك إلى ارتكابها مجددا، طوال العشرية التي أدت بالبلاد إلى الإفلاس والمهانة لم نسمع للذين يساندون اليوم قرارات الرئيس سوى الدعم المطلق لكلّ ما صدر عن الغنوشي من مواقف متضاربة، ولأن الغنوشي يعرف طينتهم جيدا وخبرهم فلم يتخذ مما أتوه أي موقف لأنهم سيعودون إلى حجره كما عاد قبلهم من هو أثقل وزنا وأكثر حضورا كاحميدة النيفر والجبالي والشعيبي والجورشي والمومني وبن عيسى الدمني وغيرهم
بقلم آنس الشابي
الهوامش
1) مجلة حقائق العدد 225 بتاريخ 8 و14 ديسمبر 1989 ص3
2) « صالح كركر كما عرفته » الدكتور أحمد المناعي، جريدة الجمهورية الألكترونية بتاريخ 20 أكتوبر 2020
3) عن ذلك انظر « حقيقة الخلاف بين حسن الغضباني وراشد الغنوشي (قراءة في الوثائق) » في كتابي « أعلام وقضايا » نشر دار آفاق، تونس 2015، ص186