هل تعيش منظومة 25 جويلية … حالة إجهاض؟

السؤال الذي قد يطرح نفسه…أو قد يطرحه كبار المتابعين للشأن التونسي من تونس وخارجها: هل انتهت منظومة 25 جويلية 2021؟ أم هل أجهضت نفسها دون أن تدري؟ أم هل انكشف أمرها؟ أم هل أجهضها من هم حول صانعها بما يقترحونه عليه وما ينصحون؟ أم هل اصطدم صانعها بواقع لم يكن يعرفه ولا يفقه معانيه، ولا يدرك كيف الخروج منه؟ فالشعب انتظر طويلا ما سيأتي به من وعدهم بدولة عادلة قوية ودولة لا فساد فيها ولا ظلم …دولة حقوق الانسان…ودولة يطيب العيش فيها…دولة لا يضطر بعض أهلها إلى مغادرتها هربا من حاكمها…دولة لا يختار شبابها الموت غرقا على الموت جوعا وقهرا فيها

هل أنجز حرّ ما وعد…جميعنا نعلم أن ساكن قرطاج رجل نظيف اليد…لم يتورّط سابقا ولا أظنّه لو ابتعد عنه بعض الناصحين سيتورّط لاحقا في ما يسيء إلى ما نعرفه عنه من حسن سيرة ونظافة يد… كما لا أظنّه سينساق وراء ما يمكن أن يخرجه من عقول هذا الشعب…لكن هل كل ذلك يكفي لحكم دولة والخروج بها مما هي فيه من وحل أوصلها إلى حافة الجوع والإفلاس والعطش…؟ علينا ألا نحلم كثيرا…كما علينا أن لا نسيئ الظنّ بجميع من حكموا قبلنا، فحكم بلاد تعاني العراقيل وقطاع الطرق والمطبات ليس بالأمر السهل والهيّن، كما يتصوره البعض…فلا يمكن الجزم اليوم بأن كل من حكموا هم سبب ما تعيشه البلاد، علينا أيضا أن نعيد التشخيص فهناك العديد من الأطراف الأخرى التي كانت لها اليد الطولى والعليا في الخراب الذي تعيشه البلاد منذ 2011…وهؤلاء يحاولون اليوم الحفاظ على مواقعهم كشركاء يفعلون ما يريدون ومتى يريدون بالدولة وبمؤسساتها…ويتمتعون بمرتبة “الشريك” الواحد الأحد…شعارهم في كل ما يفعلونه : شدّ مد يا حمد

لا أحد كان على يقين من أن ما أتاه ساكن قرطاج أو صانع التغيير الثاني بعد تغيير الرئيس الوطني الأسبق بن علي رحمه الله، سيحالفه النجاح غير من أتاه…فساكن قرطاج هو الوحيد وبعض البعض من أتباعه كانوا وربما لا يزالون على ايمان بأن النجاح سيكون حليفهم….ولأني على يقين أنهم على خطأ كبير…سأقول إن هؤلاء لم يعيشوا عمق الدولة ولم يجوبوا ثنايا مؤسساتها…ولم يعرفوا يوما مشكلاتها وخفاياها….فالدولة من خارج أسوارها غير مَن خَبرَ ما في أحشائها….فساكن قرطاج وأتباعه وقعوا في نفس الورطة التي تورطت فيها منظومة الترويكا قبل عشر سنوات مضت، فالترويكا استهانت بأمر الحكم وعاشت وتفاخرت بوهم الإصلاح والنجاح، وتحقيق المعجزات ببدائل وهمية رفعتها حين كانت تعارض منظومة بن علي رحمه الله… وكانت تجزم وتمشي الخيلاء في كل ما تعلنه للناس وللشركاء، أنها ستنجح في الخروج بالبلاد إلى أفق أرحب يتعايش فيه ومعه الجميع، لكنها اصطدمت بواقع مغاير عمّا كانت تتصوره…فالحكم ليس شعارات ترفع وبرامج تكتب على عجل، وليس أقوال بعض المنظرين الذي ماتوا وماتت معهم ايديولوجياتهم…الحكم حقيقة يجهلها من لم يتعثّر كثيرا في مسالكها الوعرة والملغومة…الحكم علاقات خارجية….وثقة منظمات ودول مانحة…وشبكة علاقات دولية متينة…وانفتاح على كل المقترحات والحلول سواء كانت داخلية أو خارجية…الحكم هو كيف توفر الغذاء لأكثر من عشرة ملايين نسمة …والحكم هو كيف تحافظ وتضمن التعايش بين كل مكونات المجتمع والمشهد السياسي بلين كثير…وشدّة أحيانا… وبتنازلات موجعة …وأخرى كبيرة …وأخرى تحت الطاولة لا أحد يعلم بها….وبتوافقات خارجية وداخلية تضمن بها سيرا عاديا لشؤون الحكم والدولة…فالحكم ليس تعنتا إذن…وليس تمسكا برأي خاطئ ومخالف للجميع…والحكم ليس حلما تعيشه ليلا نهارا…وبعض الاسطر من كتب الفلاسفة…والحكم ليس تعاليا على الجميع وكأنك وحيد زمانك والأقدر على معرفة خبايا الأمور…فليس من السهل أن تجعل من بلاد شعبها لم يخرج من بعض الجهل والفقر والخصاصة ومهدّد بالجوع والعطش كل يوم، مدينة فاضلة

كما أن الحكم وهذا الأهمّ هو كيف يحبك كل الشعب….وكل مكونات المشهد السياسي…وأن تكون من يُجمع عليه كل الناس حتى من كانوا خصومك…فالحكم ليس حقدا ولا رغبة جامحة في الانتقام من كل قديم، ومن كل من يخالفنا الراي ومن كل من نشتم عنهم رائحة لا تعجبنا…وهذا ما نعيشه بكل تفاصيله الكبيرة والصغيرة….فنحن اليوم نعيش مرحلة يغلب على “دستورها الخاص” الانتقام وتصفية الحسابات…والتخلّص بطريقة أو بأخرى من كل الخصوم، لقطع الطريق أمام عودتهم للحكم أو حتى للمشهد السياسي عموما…لغاية الانفراد بالحكم والتأسيس لمنظومة سياسية لم يألفها هذا الشعب سابقا …ولا أظنّه سيقبلها حتى وإن أرادها البعض…فالبعض ليس الكل…ولن يكون

لنتحدث عن واقعنا وماذا ينتظرنا فعلا بعيدا عن الأوهام والأحلام…فلا شيء مما نستمع إليه ومنذ 25 جويلية سيتحقّق إن واصلنا على هذا النحو، وهذا ليس لأننا لا نريد أن يتحقّق، لكن لأنه لا قدرة لنا على تحقيقه، بالحصار الذي ضربناه على أنفسنا، وعزلتنا التي صنعناها بأيدينا…فعلاقاتنا توترت مع كل من كانوا عونا لنا…وعدد خصومنا تضاعف آلاف المرّات عمّا كان عليه…وتمسكنا بأحادية القرار أوقعنا في مشاكل لسنا في حاجة إليها في هذا الوقت…فنحن اليوم أغلقنا كل أبواب النجاح والخروج بالبلاد مما هي فيه…والأخطر هو أننا نصرّ على أننا على حقّ…والحقّ يقول غير ذلك

لا…لسنا على حقّ…ولن نكسب شيئا بما نفعله اليوم مع كل من هم حولنا…فهذا الشعب ليس مستعدا بأن يفوّض شأن مصيره لأحد يصرّ على الحكم بمفرده …وليس مستعدا بأن يدخل في استفتاء حول مصيره ومصير أبنائه ومستقبل أجياله القادمة ويضعه بين يدي شخص واحد يفعل به ما يريد… وهذا الشعب لم ولن يصدّق ما يقال عن الشركات الأهلية التي كثر عنها الحديث أخيرا فهذه الشركات لن ترى النور، ولن تخرج البلاد مما هي فيه…فالأموال التي يقال إنها أموال الشعب وسيستردها ممن نهبها منه عبر هذه الشركات، هي في الأصل أموال رجال أعمال اقترضوها من البنوك للاستثمار وسيعيدونها للدولة حسب ما هو متعامل به في مثل تلك المعاملات البنكية والمالية

بعد كل هذا هل يمكن القول بأن منظومة 25 جويلية تعيش آخر ايامها وأنها إلى زوال إن عاجلا أو آجلا…وقد تفشل وتذهب ريحها في قادم الاسابيع، فالامتحان الحقيقي قادم، وهذا الشعب أصبح يخشى على قوته مما يراه وما عاشه ويعيشه منذ إعلان التغيير الثاني من صانع التغيير الثاني …فالشعب لن يشبع بقرار تغيير يوم الاحتفال بثورته المزعومة ولن يهتمّ للأمر أصلا غير من قاموا بالأمر…ولن يعيش في بحبوحة من العيش يوم الإعلان عن حلّ مجلس الشعب…ولن ينتفخ مرتبه يوم التخلّص من كل أحزاب الخصوم…ولن يصبح سعيدا حين يُسجن أحدهم بشبهة الفساد…كما لن يفرح حين يقال أحد الولاة أو أحد المسؤولين القدامى دون ذنب ودون خطأ…فهذا الشعب أو لنقل الكثير منه خرج سعيدا يوم أعلن ساكن قرطاج عن حلّ حكومة المشيشي وكنت منهم، في حدود الفرح، لا الخروج صارخا، فشخصيا كنت أكبر الناقدين والمطالبين بإبعاد المشيشي، كما أن الكثير من هذا الشعب سعد كثيرا بتجميد نشاط مجلس النواب لكنه لم يخرج ليبايع ساكن قرطاج ملكا…وليجعله الحاكم الوحيد بأمره وأمر البلاد…ولا ليقول نعم على انتخابي على المقاس ونظام سياسي أقرب إلى الإمارة

اليوم أصبح هذا الشعب في حيرة من أمره…بعد أن بان له الخيط الأبيض من الخيط الأسود…وعرف أن ما عاشه ليس أكثر من حلم ليلة ذهب مع فجر اليوم الموالي…فأوضاع البلاد زادت سوءا رغم ما يزعمه بعض الأتباع …والحصار أصبح أشدّ على مصالح هذه البلاد…والعزلة أصبحت ظاهرة للعيان …واقتصاد البلاد أصبح عاجزا عن تسديد معلوم حاجياتها…وجميع المؤشرات تشير إلى إمكانية تأزم الأوضاع إلى ما لا نهاية له…فهل هذا حقّا ما كان ينتظره الشعب حين خرج محتفيا بما أتاه ساكن قرطاج؟ فهل دغدغة مشاعر رفض النهضة والحقد على قياداتها وأتباعها ستصلح حال البلاد…وهل إرضاء الرافضين لمجلس نواب الشعب سيكفي الشعب غذاء الأشهر القادمة…وهل ضرب الأحزاب وتعطيل أعمالهم سيحدّ من نسب العجز والتداين الداخلي والخارجي…وهل تعليق العمل جزئيا بما جاء في الدستور سيرضي عنا المنظمات والدول المانحة…وهل إلقاء بعض الوجوه في السجن دون محاكمة نهائية ومؤيدات رسمية سينسي الناس همومهم…وهل …وهل…وهل…كلها أسئلة لن تجد من يجيب عنها…فزمن الشعب يريد ولى…فالشعب اليوم نعم…يعبد ما تعبدون…لكنه لا يريد ما تريدون…ولن يختار ما تختارون…ولن يقول نعم لما له عليه ستستفتون…فلا تسيئوا به الظنون…فهو يبحث فقط عن استقرار…وأمن…وعدل…وأبناء من البطالة يتخلصون…وكرامة وعدل…وقانون…ولا هم يَظلِمُون…ولا يُظلمُون

محمد الأطرش عن جلنار