هل إقتلاع الإرهاب يَتَحَقَّقُ بوقف أحكام الإعدام؟

لقد آلمنا عويلُ أمِّ الشاب التونسي فخري رضوان الأندلسي، الذي حُكم عليه بالإعدام في جريمة قتلٍ إرهابية في دولة قطر. فعلا، أَن يحترقَ قلبُ أُمٍ تعيش تجربةً مُروِّعة بهذا الشكل، أمرٌ يَهِزُّ ضمائرَ وقلوبَ كلِ النفوس السوية الرحيمة

لكن مَن مِنا تساءل عن مدى لوعة وبكاء عائلة فقدت إبنها، ذلك الشاب الصومالي الذي فكَّر أنه نجا من وهجِ حربٍ أهليةٍ تجاوزت عقدها الثالث، وإستقر مسالما في عملٍ آمن يضمن له ولعائلته ظروف عيش كريم؟ هو لم يدخل دولة قطر ليَقتل أهلها بل إختار من الشغل أنبله، تأمينَ حراسةِ أطفال في مدرسة 

وهذا يُذكرنا بشقاء المهاجرين التونسيين، سواء كانوا عمالا، موظفين أو طلابَ علم، لعقود طويلة قبل أن نكتشف سلاحا فتاكا إسمه الإرهاب. وهو وإن لطخ سمعة، لا أولئك المهاجرين الشرفاء الوطنيين بقدرٍ ليس بالهين، مادام قد طال بلاؤه دولا شقيقة وصديقة، في الشرق وفي الغرب، فإنه لم يفُتَّ في عزائمهم من أجل مواصلة الكدِّ والجد، ليس لتأمين العيش بسلام وفي أمان، بل وللتفوق كذلك. وما الأخبار السارة الواردة علينا بين الحين والآخر عن نجاحاتٍ يُحققها شبابٌ تونسيٌ في مختلف أرجاء الكون، وأخيرُها وليس آخرَها، خبرُ الإسهام اللاَّفت للشاب محمد عبيد في إنجاح مهمة المركبة « مثابرة » البحثية الأمريكية إلى المريخ ضمن فريق « النازا » العامل عليها، إلا تأكيدٌ لذلك !
ومع ذلك، وبرغم تلك النجاحات وبرغم العدد المتزايد من طلبة العِلم التونسيين الذين دفع بهم أولياؤهم في بحر هذه العشرية السوداء، إنقاذا لهم من جحيمها، إلى الهجرة إلى الضفة المقابلة من المتوسط. وهو ما أقدم عليه أيضا آلافُ الكوادر من مهندسين وأطباء وغيرهم، بكل ما تعنيه من تضحيات منهم، فإننا لم نقدر بَعدُ على النهوض من كبوة فاجعة تسفير شبابنا، إلى ما عُرِفَ « ببؤر التوتر » المقصود بها ليبيا وسوريا والعراق وغيرها من أجل القتل و : نيلِ ثوابِه

لقد تعرض أولئك الشباب لعملياتِ غسلِ أدمغة مكثفةٍ، جهاراً بهاراً، في المساجد وفي الساحات برعاية حكام البلد ومشائخهم وأيمتهم، حتى خلقوا منهم وحوشا آدميةً دموية ثم دفعوا بهم للتجربة على أرض الوطن قبل إرسالهم خارجه. ألم يصل الأمر إلى سحل الوطنيين حتى الموت وإغتيال الزعماء ببرودة دم؟

وقد وثّقت هيئاتٌ أممية ومصادرُ إعلاميةٌ عالميةٌ شهيرة وحشيةَ جرائمِ أولئك التونسيين الإرهابية حيثما حَلُّوا ووصفتها بالأكثر وحشيةً على الإطلاق. وغيرُ ساقط من الذاكرة ما إقترفه البعض منهم من أعمال إرهابية في دول غربية مثل فرنسا وألمانيا، خلّفت عشرات الضحايا. ولا نعلم لحد الساعة كم عاد منهم إلى أرض الوطن وكم مازال منهم موجودا على أراضي بلدانٍ مجاورةٍ وبعيدة. كما لا نعلم شيئا عن الجهات التي أمّنت رجوعهم أو بقاءهم أو نقلهم إلى بلدان أخرى بهوياتٍ وأقنعةٍ جديدة

لم نُفِق بعد من كابوس تلك الجرائم المُرَوعَة، ولم يَمض على أحدثها إلا أيام قليلة بإستشهاد أربعة من جنودنا البواسل وحراس الوطن الشرفاء في إنفجار لغم زرعه رهط من أولئك الإرهابيين، خريجي حلقات الدروس المسجدية والشارعية لتلك السنوات حالكةِ الظلام والمستمرة بتلوينات تضليليةٍ مختلفة، حتى طالعنا خبر موافقة أمير قطر على تعليق حكم الإعدام في الشاب فخري رضوان الأندلسي إستجابةً لطلب تقدم به إليه رئيس الجمهورية التونسي

أسئلة كثيرة داهمتني وأنا أستمع ككل التونسيات والتونسيين لهذا الخبر. فكيف يمكن تفسير هذا الطلب، وما هي تداعياته الوخيمة على تونس؟ بل أهم من ذلك كله، ما هي الدروس المستخلصةُ لشبابنا من طلب مثل هذا؟

أسئلة مُحيِّرة لما تكتسيه من خطورة لا أعرف إن كان رئيس الجمهورية قد فكَّر فيها، أم لا، حين بعث بذلك المطلب إلى الأمير القطري؟
حين يتقدَّمُ أي مواطن للإنتخابات الرئاسية، فالمفروض أن يكون على علمٍ بالمسؤولية الضخمة التي سوف يحملها على عاتقه لأنها تتضمن أمانةَ حاضرِ ومستقبلِ شعبٍ بأطفاله وشبابه، بنسائه ورجاله. وهذه المسؤولية تقتضي أن يُفكر مليون مرة قبل أخذ أي قرار، لِمَا لأي قرار من تداعيات على كل أفراد المجتمع، يمكن أن تؤثر على حاضرهم وتَرتَهِن مستقبلهم، ومستقبل أجيال من بعدهم

لقد كانت لي خلال السنتين الماضيتين لقاءات مع العديد من القضاة في العراق وأيضا مع أصدقاء سوريين وليبيين، تحاورنا خلالها كثيرا بشأن الشباب التونسيين الذين دخلوا أوطانهم بهدف إغتيال مواطنيهم. ومن المحاور التي شملتها أحاديثنا، إشكالُ تنفيذ الأحكام التي صدرت على من وقع القبض عليهم، وإشكاليةُ الدول التي لم تقبل تسلَم هؤلاء الإرهابيين بعد صدور الأحكام المختلفة عليهم

وعلى إثر هذه اللقاءات والحوارات خَرجتُ منها بقناعةٍ راسخة وهي صعوبةُ حسمِ هذه الإشكالات المُتشعبة والتي لا يمكن أن تُختصر في طلب رئيس الجمهورية إيقافَ أو تأجيلَ تنفيذ حكم الإعدام في الشاب التونسي الذي قرَّر مع شاب تونسي آخر وإثنين بنغاليين القيام بقتل حارسِ أمْنٍ صومالي لم يبادرهم بأي سوء

فماذا لو أن صوماليا بادر هو بقتل شاب تونسي؟ هل أن الشعب التونسي سوف يتقبل طلب الصومال بإيقاف تنفيذ حكم الإعدام في مواطنها، مهما تكن وجاهة ذلك الطلب من عدمه؟

المواجدة تقتضي أن نضع أنفسنا مكان أُم فخري الأندلسي، وهذا ربما ما قام به المواطن قيس سعيد، ولكن المواجدة تقتضي أن يضع رئيس الجمهورية قيس سعيد نفسه مكان أم الضحية الصومالي وأيضا مكان كل العائلات السورية والعراقية والليبية والأوروبية التي إكتوت بنار فقدان فلذات أكبادها من جراء عمليات إرهابية، غرس فكرَها ورعاها إتجاهٌ يقتل باسم إسلام. إسلامٌ يستعمله كأصل تجاري يبيع ويشتري فيه الموت والدم والقتل والإغتيال وترويع شعوب بأسرها، بإسمه. إتجاه إمتهن الإرهاب وإتخذ مختلف الشعارات التمويهية وسيلةً لاستهبال المُغفلين وإقناعهم أن الموت حلال حين يقومون به هم، ويُصبح حراماً لما تُوجه ضدهم أحكام إعدام

وها نحن نراهم اليوم بعدما كانوا مُعارضين شرسين لإلغاء أحكام الإعدام، يُهلِّلُون لنزول أمير قطر عند رغبة وتوسل الرئيس التونسي بتعليق حكم الإعدام في الشاب التونسي القاتل والنظر في حكم بديل عنه

فهل هو إيذان بتَحَوُلِهم عن موقفهم الأول، وفي مقدمتهم رئيس الدولة، المعارض لإلغاء حكم الإعدام، أم فقط لأمرٍ كان وكانوا يقضونه؟؟
التاريخ يا سيادة الرئيس، طالما أنت مُهتم بالإستشهاد به دائما، التاريخ كفيلٌ بكشف ما خَفِي ويَخفَى من الحقائق وإن طال ويطول الزمن، ولك في مَن سَبِقَكَ إلى قصر قرطاج أكثر من عبرة وأكثر من درس

خديجة توفيق معلَّى