هرمنا من أجل الوضوح والمسؤولية والإنقاذ

تسارعت الأحداث خلال الأيام القليلة الماضية ببلادنا وتسارعت معها فصول «العركة» بين القصور فيما تفاقمت الأوضاع المعيشية للتونسيين وازدادت خشيتهم من الآتي بما أن الغموض يكتنف المشهد ولا أفق لحل عاجل ولو جزئي بما أن كل طرف في منظومة الحكم مصرّ على الانتصار لذاته وتكبيد «خصومه» الهزيمة النكراء ليس استجابة لانتظارات الشعب في تقديرنا بقدر ما هو شغف خاص بتسجيل النقاط وإرضاء الأنا المتضخّمة بالنسبة الى البعض والحفاظ على المصالح والغنائم بطبيعة الحال بالنسبة الى البعض الآخر

في الأيام الماضية إذن، أقدمت الحكومة على تعكير ما تبقّى رائقا من مزاج التونسيين بإقرار زيادات مشطة في أسعار العديد من المواد والخدمات الأساسية من نقل وماء ومحروقات وحليب وسكر وغيره بالتزامن مع جولات المفاوضات مع الشركاء الدوليين والمؤسسات المالية العالمية، مع التنصل أو المماطلة في تفعيل الاتفاقيات المبرمة مع الأطراف الاجتماعية في الداخل، مستقوية في ذلك بوسادة سياسية وأغلبية برلمانية لم يعد لها من مبرّر للوجود سوى التشبث بتلابيب القصبة ورهن الأداء الحكومي ومواصلة الإطباق على باردو وإحكام القبضة على عمل المؤسسة البرلمانية بحيث لا خراج ولا تشريع إلا في حدود ضخّ الدم للحكومة «الميّتة سريريا» إن جاز القول وابتزازها وجعلها درعا متقدّما في الحرب على قرطاج

وتحيلنا الحكومة ورئيسها بشكل خاص الى تعريف طريف متداول لوجبة طعام معروفة بـ «السندويتش» وهي «الشاطر والمشطور وبينهما كامخ أو طازج»، فساكن القصبة اليوم الذي «ائتمنه» ساكن قرطاج – كما قال – ذات يوم ليشكّل معه الرأس الثاني للسلطة التنفيذية، أصبح مرتهنا ومحسوبا على الأغلبية التي «غنم» منها الثقة والصمود والبقاء في البرلمان بقيادة حركة النهضة وتحديدا رئيسها راشد الغنوشي الذي اختار حليفا له رئيس قلب تونس الذي هو في نفس الوقت «خصم» سابق أيضا لرئيس الجمهورية واجهه في السباق الرئاسي في 2019، وتسير الحكومة اليوم بـ «ثلث معطّل» نتيجة تعذر أداء 11 وزيرا للقسم منذ 26 جانفي الماضي

وسط هذا التدافع، عمّت الفوضى وانعكست الأزمة السياسية والأخلاقية على كل مناحي الحياة المتأزمة بطبعها اقتصاديا واجتماعيا وبلغ الانفلات ذروته في أكثر من واقعة وقضية، بدءا باعتصام أحد النواب بالحصانة وهو مطلوب للقضاء العسكري، وصولا الى تسييج محيط مجلس نواب الشعب يوم اعتصام الحزب الدستوري الحر للمطالبة بـ «رحيل الإخوان من البرلمان»، وما حصل بعد ذلك في القطب القضائي المالي عند مثول رئيس قلب تونس أمام قاضي التحقيق، و«غضبة» رئيس بلدية الكرم على إذاعة «شمس أف أم» الخاصة، ومشهد اعتقال طفل سيدي حسين السيجومي وكذلك إقالة رئيس هيئة مكافحة الفساد واستبداله بشخص آخر تفيد المؤشرات أنه لن يباشر وظيفته السامية بما أنه مرفوض من رئاسة الجمهورية وبالتالي لن يؤدي اليمين أمامها وبهذا الشكل تُضاف هذه الهيئة «العليا» و«المستقلة» الى بقية الهيئات المعطّلة أو المعوّقة أو المفقودة اصلا وعلى رأسها المحكمة الدستورية

لقد استبشر البعض خيرا باللقاءات التي رتّبها رئيس الجمهورية يوم الجمعة 11 جوان الجاري مع رئيس الحكومة الذي يشغل حقيبة الداخلية بالنيابة ومعه وزيرة الوظيفة العمومية التي هي بدورها وزيرة العدل بالنيابة، الى جانب الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل.
ويمكن القول أنه بعد الاطلاع على ما رشح من هذه اللقاءات وما جاء على لسان ساكن قرطاج ومكنتنا منه رئاسة الجمهورية من خلال تسجيلات الفيديو الحصرية وبعض التدوينات والتعليقات الصادرة عن الحضور، أن الامين العام للمنظمة الشغيلة أفرط في التفاؤل حين بشّرنا بالقول :«بدأنا نتخطى الأزمة السياسية وبوادر إيجابية جدا في القريب العاجل»، فقد سبق وأن سمعنا هذا الانطباع منذ العام الماضي عندما قدم الاتحاد مبادرته حصريا للرئاسة وعهد لها حصريا بالاشراف على الحوار الوطني

ليس ذلك فحسب، عندما نتوقف عند تعليق رئيس الحكومة بعد اللقاء، نقف على حقيقة أن الانفراج غاية صعبة المنال في ظل الاوضاع والمعطيات الراهنة خصوصا وأنه لا أحد بيده من عناصر القوة ما يسمح له بقلب المعادلات وفرض أمر واقع جديد ينسينا التدافع والاستنزاف واللطميات والتسريبات والاتهامات

فرئيس الحكومة مثلا، وبخلاف الانطباع الذي يرتسم لدى كل من يستمع الى خطاب رئيس الجمهورية اعتبر أن اللقاء معه جاء في اطار التعامل العادي مع رئاسة الجمهورية وأن سيادته : لم يسمع منّي سوى المباركة

ويعلم الجميع أن المقصود بكلام رئيس الجمهورية ليس ساكن القصبة وإنما من يقف خلفه ويدعمه ويفرض عليه نهجه ويمسك بيده سيف «سحب الثقة» وهو رئيس البرلمان راشد الغنوشي الذي وصل به الأمر الى حدود منازعة الرئيس في صلاحياته ودوره على رأس الدولة التي لها رئيس واحد على حد تعبير قيس سعيد

هنا مربط الفرس كما يقال وهنا ينجلي الغموض في كلام رئيس الجمهورية الذي هو في نهاية المطاف بصدد توصيف الأشياء بلغة الشارع التونسي ويعبّر بصدق عما يخالج النفوس لكن دون الجرأة على تسمية الأشياء بأسمائها ودون الإعلان صراحة عن الخ

بقلم : مراد علالة