يُربي « الإخوان المسلمون » الأطفال بالوعد والوعيد، ويدعون الشباب ومن يسمونهم « عصاة » منهم للتوبة طمعا في الجنة وحورها ونعيمها واتقاء « لنار الله » التي تنتظر الكفار والجاحدين والعصاة، فالنار عندهم عقاب إلهي والنار عندهم « نار الله الموقدة » التي يعمل تنظيم الإخوان العالمي على تجنيب المنتمين إليه حريقها ولهيبها. لكنّ المرحوم سامي الصيفي اختار مقر حزب النهضة ليضرم في نفسه النار التي يعرف جيد المعرفة رمزيتها ومعناها عند إخوانه في الحركة. فهي من الأدبيات التي ينشؤون عليها. هي « نار الله » حرق سامي بها نفسه احتجاجا على ظلم إخوانه
وظلم ذوي القربى أشد مرارة على المرء من وقع الحسام المهند
ورغم ثقافة الجماعة الإخوانية القائمة على التخويف من الجحيم فإن الضحية تجاوز حاجز الخوف من النار ومن عقاب الله. وسقط جدار الخوف النفسي تماما: لم تعد تلك النارُ نار جهنم الحارقةَ، ولا هي نار السعير المستعر، ولا هي نار الله يصلي بها المارقين المرتدين والمنافقين والذين لا يبايعون المرشد، ولا هي نار الذين كفروا برحمة الله. صارت النارُ صديقة وأختاَ للأخ المظلوم، تطهره من ألمه وتحرّره من ظلم يحمله منذ سنوات شبابه وتعتقه من جلده وترفع عنه البلاء بل وتجبر الغنوشي الذي يعتقد أنه( حسب ما صرح به أهله) ماطله وتلاعب به وسوّفه وتاجر بدمه وعقله وسنوات شبابه تجبره على أن يأتي على جناح السرعة إلى عين المكان فيشهد الخراب الذي سبّبه. وأما قادة النهضة فبدت عليهم ملامح الاستغراب والتعجب، فلم يفهموا كيف يقدم أخ يصفونه بالثابت على مبادئه على حرق نفسه بالنار، لم يفهموا كيف يفقد الصيفي خوفه وقد ربوه على الخوف من النار وربوا كل أطفال وشباب ونساء النهضة على الخوف من النار؟ كيف يفقد الصيفي خوفه؟ هل فقد إيمانه فجأة؟ إنهم يصفونه بالثابت على مبادئه وإيمانه ولكنهم لا يفهمون إقدامه على الموت حرقا. وكيف لا يصفونه كذلك وهو الذي سجن عقدا من عمره أو أكثر بسبب انتمائه لتنظيم الإخوان وبسبب تورطه في جماعة كانت تخطط في تسعينات القرن الماضي لقلب نظام الحكم وإحلال دولة دينية على نحو ما في إيران الخمينية، كيف لا يصفونه بالثابت ولم يقتل سامي نفسه أيام سجنه ولا أيام جوعه ولا أيام مطاردة النظام وتضييقه عليه، وها قد حرق نفسه اليوم وقد سقط ما كان يعتقد أنه الاستبداد. ربما اكتشف سامي الصيفي أن الاستبداد الحقيقي لم يسقط، وأن حياته قد انقضت في مطاردة وهم وأن الغنوشي لا يقل استبدادا عن بن علي ولا عن بورقيبة بل لعل استبداده أعمق وأشدّ. فاستيلاء بورقيبة وبن علي على الحكم كان باسم الحزب وكان واضحا أنه حزب متكون من البشر أما استيلاء الغنوشي على السلطة التي تلاعب عبرها بعقول أتباعه فإنه باسم الدين واسم الله واسم النار التي تصلي فصلاه السيفي بها رمزيا حين أضرم في مونبلزير نارا أشعلها الغنوشي حين شرع يستجلب فكر الإخوان من المودودي والبنا ويزرعه في شباب تونس المتمرد على نظام الجمهورية في فترة حرجة وقد زعزعته هزات عالمية كالحرب الباردة وهزيمة 67 والقضية الفلسطينية ثم حرب الخليج وأنياب العولمة المتوحشة
كان يمكن للشباب التونسي أن يتمرد في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي ضد بورقيبة وبن علي تمردا خاليا من الصحوة ودمارها ونارها الشاوية لو لم يتلاعب بعقولهم مرشد إلى ما يسميه النجاة في الدنيا والآخرة. ولكن هذا المرشد الذي أرسل أبناءه إلى أرقى جامعات العالم المتحضر المسمى « كافرا » ترك ضحاياه من إخوانه يقبعون في سجون النظام سنوات قبل أن يعيد استخدامهم في حربه ضد التونسيين بعد الثورة ثم ينتهي به الأمر إلى وضع يده في يد القوى العالمية متسولا تدخلا أجنبيا بعد هزيمته في بلده وخروجه من البرلمان عشية 25 جويلية في ذكرى الجمهورية. ومازلنا نذكر كيف لم يستجب شباب النهضة لنداءاته ولم يعرض النهضويون أنفسهم مرة ثانية للدفاع عن شيخهم فقد انكشف كل شيء أمامهم: تلاعبه بهم ومماطلته لهم واستثماره فيهم والفرق الهائل بينه وبين الفقراء منهم والمتوسطي الحال الذين دفعوا ثمن رفاهته هو وعائلته. ماالفرق بين الغنوشي وغيره من المستبدين الذين ادعى انه يحاربهم ويناضل ضدهم؟ وعن أي نضال يتحدث الغنوشي؟ نضال لتطبيق الشريعة؟ نضال لجعل تونس تونستان؟ نضال للعودة القهقرى إلى الزواج بأربع والتأديب بالهجر والضرب والعصا؟ نضال ماذا يتحدث عنه ومن أجله يطالب بالتعويض؟ نضال ضد الدكتاتورية التي يزعمُ فإذا هو صنو لها؟ نضال لتدمير مسار تحديث المجتمع والدولة وتمكين التنظيم العالمي منه لختان البنات وتحجيبهن وتطويل اللحى ولبس الجلابيب وحكم القوى في البلاد؟ أي نضال يريد الغنوشي من الشعب التونسي دفع ثمنه؟
رحم الله سامي الصيفي لقد قتله جشع النرجسيين الذين يعتقدون أن الله لم يخلق سواهم، قتله تجهيل خطاب الدعوة المقيت له ولعشرات ومئات العقول، وقتله الشعور بالظلم والقهر، قتله انه بعد كل ما دفعه من سنوات سجن يتبين له أن مرشده الذي ألهه وقدسه بشر عادي له أكثر من وجه وأكثر من خطاب فقد جبة الداعية ولم يلبس برنس السياسي، لقد قتله الظلم وقتله الحزن الذي سببه المرشد لآلاف العائلات التونسية
يحرق الناس أنفسهم لا ليموتوا بل ليتكلموا كلمتهم الأخيرة وليجبروا الآخرين على سماعهم، إنها إذن وسيلة للتواصل حين ينعدم التواصل، ووسيلة للتعبير عن الصوت حين يمسي صوت المرء غير مسموع. إن الشخص الذي يضرم النار في نفسه بإمكانه أن يموت في غرفة مظلمة وحيدا بجرعة دواء زائدة لكن إضرام النار لها دلالة مضافة هي تلك الرسالة الأخلاقية الأخيرة التي يعلن عنها الحارق لنفسه في وسط الحشود كأنه يقول: هذه نار الله الموقدة أيها المرشد هاهي تضطرم في جلدي لتطهّرني منكم ولأطهر تونس منكم
نار سامي الصيفي ليست نهاية آلمه النفسي وعذابه الذي سببه انتماؤه لتيار الإخوان المسلمين وعقم هذا الفكر وقيامه على الخديعة، نار سامي الصيفي بداية جديدة للتونسيين، درس يتعلمون منه أن لا يرتهنوا عقولهم لأية داعية مهما كان سواء باعهم وهم الجنة في الأرض أو في السماء. فالجنة نصنعنها بعرق جبيننا لا بالانسياق وراء الأكاذيب والأوهام وتجار الدم
زينب التوجاني