من أجل تحالف للإنقاذ

عبّرت نسبة مهمّة من الشعب التونسي بمختلف فئاته وبأساليب متنوّعة عن فقدانها الثقة تماما في قدرة المنظومة الحزبية، سواء منها تلك التي تولّى بعضها الحكم منذ الثورة إلى اليوم أو تلك التي كانت في المعارضة وحتى التي ظلت على هامش السلطة والأحداث، على الاستجابة الفاعلة لمتطلبات المرحلة وحاجاتها وفي كفاءتها لإدارة الشأن العامّ ولإرساء منظومة بديلة لنظام الاستبداد. واتفقت أغلب آراء الدارسين المختصين في العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية على التقييم نفسه الذي يقر بفشل هذه الأحزاب في تحقيق أي مطلب من مطالب الثورة. ويعود هذا الفشل في نظرنا إلى أمرين رئيسيّين يتعلق أولهما بالحزب الذي ظل أغلبيا طوال هذه الفترة وهو أنه لا يملك أيّ مقوّم من المقوّمات التي تسمح عادة لأحزاب الحكم بالقيام بالوظائف الرئيسية التي تنتخب لأجلها لتولي السلطة التشريعية والتنفيذية ومن ثمّة لإدارة دولة وتهيّئ لها أسباب النجاح في مهامّها. فعلى الصعيد البشري يجمع هذا الحزب في قياداته العليا والمتوسطة أشخاصا لا خبرة لديهم في إدارة مؤسسات الدولة ولا تجربة في العمل السياسي بمفهومه العلمي الدقيق وإنما لديهم فائض من الحماس الإيديولوجي كثيرا ما يكون من العوامل التي تعطّل العمل السياسي والإداري وتقود إلى الفشل. أما على صعيد البرامج والخطط الاستراتيجية فإن الواقع الذي آلت إليه بلادنا بعد عشر سنوات كان هذا الحزب خلال أكثرها أغلبيا لا يحتاج معه إلى دليل آخر على كارثيته وعلى ما صار يتهدد البلاد من مخاطر حقيقية أقلها الإفلاس، وهذا بصرف النظر عن أدبيات هذا الحزب التي لا نقف فيها على ما يستحق أن يعتبر برنامجا لإدارة دولة في وضع ثوري ولا خططا لإعادة بناء اقتصاد ظل يعاني لفترات طويلة من مشكلات هيكلية. قد تكون مرجعية هذا الحزب فاعلة في فشله إلا أننا لا نعتبرها محدّدة، ذلك أن هذا الحزب، وبفعل الخوف من رد الفعل الجماهيري من جهة والمراقبة الدولية المسلطة عليه من جهة أخرى، أرجأ في الظاهر العمل وفق ما تمليه عليه مرجعيته العقائدية في انتظار أن يمكّن لنفسه في مفاصل الدولة وفي مواقع السلطة والقرار فيها، أو هو كلّف بها أذرعة أخرى ينكر صلته التنظيمية بها. إنما نرى المحدّد لهذا الفشل هو كما أسلفنا أن هذا الحزب لا يملك المقومات الموضوعية للحكم ولإدارة دولة، وخاصة عندما يكون وضعها وضع أزمة. وهذا ما يفسر تجاهل حزب حركة النهضة المطالب الاجتماعية للشباب الذي كان الفاعل الأول والأساسي في الثورة ، وانقلابه وسائر « الحزيبات » التي تولت معه السلطة على المتطلبات الاقتصادية لإدارة المرحلة ومنها خاصة الاستثمار في خلق الثروة ومواطن الشغل وتغيير المنوال في اتجاه منظومة اقتصادية أكثر عدالة بين الجهات وأكثر توازنا بين القطاعات وأكثر فعالية في استثمار مقدراتها الذاتية وتنميتها ، وبدلا عن ذلك اختارت الحلول الأسهل فأغرقت البلاد في الديون ورهنتها للمانحين وكلما اشتدت بتونس الأزمات الاجتماعية وارتفعت وتيرة المطالب أغرقت المنظومة الحاكمة في مزيد من الأخطاء ولم تصب الطريقة المناسبة في التعامل مع الاحتجاجات وازدادت عزلتها وارتفع وعي التونسيين ففشلها وبعجزها. ولذلك لم يبق أمام التونسيين سوى أن يستردوا لأنفسهم زمام المبادرة وأن ينتظموا من أجل البحث عن مخرج من هذه المآزق ينقذ البلاد ودولتها، لن يكون خارج إطار التغير الجذري لهذه المنظومة بواسطة دستور جديد ونظام انتخابي مناسب يستند إلى نقد التجربة السابقة ومآزقها

وبسبب هذا الوضع الذي عليه الطبقة السياسية وأحزابها فرّت مجمل الكفاءات الوطنية من ساحة العمل السياسي وتركتها مرتعا لصيادي الفرص ومنتهزيها وللمستثمرين في المضاربات السياسية، وهذا هو السبب الثاني في نظرنا لهذا الوضع الكارثي الذي آل إليه حال تونس. وإذا كان لنا أن نفكر في حلّ لهذا الوضع وفي آلية تنظيمية تناسب المطلب الذي سقناه فإن ذلك لن يكون أبدا بهذا التشرذم الذي عليه القوى المدنية، وإنما بتحالف تجتمع فيه وفقا لبرنامج جامع في مبادئ وقواعد كبرى تمثل الحدّ الأدنى للقاء بينها، ويكون لها من البرامج والخطط الاستراتيجية ما يقنع ويكفل استعادة نسبة من الكفاءات . كما يجب العمل على تطوير الوعي العام في اتجاه أن تكون الاختيارات الشعبية عملية معقلنة مدروسة تضع مصلحة البلاد وشعبها فوق مصالح الأحزاب. لكن هذا يظل منقوصا ومؤهلا لإعادة إنتاج المنظومة نفسها إذا لم تعرف هذه القوى المدنية ونخبها الوطنية كيف تعيد بناء نفسها وكيف تنتظم وكيف تضع مصلحة البلاد فوق المصالح الحزبية الضيقة والمواقف الإيديولوجية وكيف تتخلص من « الأورام » التي تعاني منها بسبب تضخم النرجسيات الفردية الموهومة بالزعامة. لم تعد المرحلة التي تمر بها تونس ولا الأوضاع الخطيرة التي تعبر بها تحتمل هجر الكفاءات الوطنية والشخصيات التي تحظى بمصداقية ساحة العمل السياسي ولا الاقتصار على العمل الجمعياتي المدني، فهذا لا يمكن أن يحلّ محل العمل السياسي المنظّم. لا حلّ أمام تونس سوى العمل على تعديل الدستور وتعديل النظام الانتخابي وانتظام القوى الوطنية المؤمنة بالدولة المدنية في تحالف من أجل الإنقاذ الوطني

بقلم زهية جويرو