يرى الفيلسوف الأمريكي « جون راولس » في مؤلفه « نظرية العدالة » أنه من اللا أخلاقي ومن غير العادل أن تحمّل سلطة ما الأجيال القادمة عبء سياساتها واختياراتها السياسية، وعليه فإنّ من واجب كل من يتولّى مسؤولية الحكم أن يستقرئ تاريخ السلطة السابقة وأن يحدّد بوضوح وبصدق ما لم يعجب جمهور المواطنين من سياساتها مما أضرّ بمصالح الأجيال الراهنة حتّى لا تعيد هي الأخطاء نفسها فتتحمل الأجيال اللاحقة آثارها
بهذا المثال حدّد جون راولس أحد تعبيرات الإيطيقا السياسية أو السياسة الإيطيقية، تلك السياسية التي تنبني على مرجعية قيمية هي ذات مرجعية القانون الذي تستند إليه، وعلى مرجعية أخلاقية تستند بدورها إلى الحقوق التي يعمل القانون على تأمينها للمواطنين وعلى حمايتها من أي تهديد
كان يفترض إذن أن تعمل كل الأحزاب والأفراد الذين تولوا الحكم بعد الثورة، وكان لهم ضمن مؤسسات الدولة موقع يمنحهم أمر إدارة الشأن العام ويحملهم مسؤولية إزاء الأجيال أن يعتبروا من الأخطاء التي اقترفها سابقوهم ودفعت الشعب إلى الثورة عليهم، وأن يتعاملوا معها باعتبارها خطّا احمر لا يجوز لهم الاقتراب منه . وقد كان الفساد واستخدام السلطة لتحقيق المصلحة الخاصة ولتقديم الامتيازات بغير وجه حق على قاعدة القرابة أو الولاء مقابل حرمان آخرين من مجمل الحقوق التي تكفلها لهم مواطنتهم، بما يترتب على ذلك من مسّ بكرامتهم، أبرز علامات ذلك الخط الأحمر من جهة وأخطر ما ظلّ جيل الثورة يعاني أوزاره إلى اليوم من جهة أخرى، ذلك أن من تولوا الحكم لم يقدروا على التخفيف من آثار تلك السياسات على الجيل الراهن، بل إنّ الأدهى أن منهم من انخرط فيها وواصل النهج نفسه الذي أنتج الثورة حتّى إنهم استقطبوا شخصيات كانت فاعلة في تلك السياسات للاستفادة من خبراتهم. إضافة إلى ذلك يوجد مؤشّر آخر على غاية من الأهمية هو انفصال الساسة عن الأخلاق، أي انفصالها عن المرجعية القيمية والأخلاقية التي تتأسس عليها القوانين والحقوق العامة والفردية. فعلى هذا الانفصال ترتبت سائر الأخطاء التي أودت بالحكم السابق والتي قد تؤدي بالحكم القائم إذا ما استمرّ، خاص وأن الملاحظين لما يحدث في المجال السياسي بتونس اليوم لا يختلفون عموما على أن هذا المجال يشهد مستوى من الانحدار الأخلاقي ما ينذر بكثير من المخاطر، يتجلى هذا الانحدار في مختلف مكوّنات المجال السياسي، من الأشخاص وسلوكهم، إلى العلاقات بين الفواعل السياسيين أفرادا وأحزابا فالعلاقات بين مؤسسات السلطة، دون أدنى اعتبار لما يترتب على ذلك من نتائج يمكن أن تكون مدمرّة للدولة ولمؤسساتها، وللقانون وللحقوق العامة والفردية ، ومن أخطر التعبيرات الدالة على هذا الانفصال بين السياسي والأخلاقي أشكال الخرق التي ترتكب بحق القانون، وأشكال الإفراط الانفعالي المتمرد على الضوابط القيمية والإيطيقية والديونطولوجية، خاصّة عندما يستهدف الأفراد والمجموعات والمنظمات التي تسعى إلى مقاومته، نرى هذا في ما يتعرض له الشباب المناهض للسلطة ولأسلوبها في إدارة الشأن العام والناقد لفشلها في تحقيق مطالبه والمتمرد على ما يعتبره انحرافا للمسار الثوري، هذا الشباب الذي كبر زمن الثورة وكان يمكن أن يكون دوره اليوم هو نفس الدور الذي قام به جيل سبقهم من شباب قاد قبل عشر سنوات ثورة وعدّ عمله ذاك فعلا بطوليا. إن الإفراط في السلوك العنيف داخل مؤسّسات الدولة، بما فيها المؤسسة المؤتمنة على إرادة الشعب وحقوقه، وعلى القانون وقيمه ظاهر في الخطاب المتداول داخل حرم هذه المؤسسة وقد بلغ درجة من الابتذال والبذاءة لا ينافسه فيها أكثر الخطابات بذاءة ، وظاهر أيضا في السلوك والتصرفات الانفعالية المتطرفة مثل الاعتداء بالعنف على ممثلي الشعب وممثلاته، مثلما هو ظاهر في أساليب المنافسة السياسية اللاأخلاقية وآخر أمثلتها ما عرفناه مؤخرا عبر التسجيلات المسربة وهي تسجيلات تفضح بذاءة المسرِّب ولا أخلاقية المضمون المسرَّب ومن ينسب إليه وطريقة التسجيل والتسريب، وهي مظاهر يتابعها عموم الشعب يوميا عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ممّا ساهم في خلق حالة عامّة من الإحباط وفقدان الثقة في الجميع أفرادا ومؤسّسات نراها تتحول إلى حالة تكاد تكون عامّة من الانصراف عن متابعة الشأن العام يصعب التكهن بمآلاتها
إن مظاهر انفصال السياسة عن الأخلاق في المجال السياسي التونسي الراهن أكثر من أن يحاط بها في مقال قصير، ونحن لا نرمي إلى عدّها وإنما هي نماذج نريد من خلالها أن نلفت الانتباه إلى خطورتها على بلادنا وعلى الجيل الراهن وإلى أنّ آثارها ستظل تتابع الأجيال اللاحقة مثلما ستتابعها آثار سياسة التداين التي لم تول أدنى اعتبار لهذا العبء الذي ستحمّله لتلك الأجيال. لا شك أن هناك من الأشخاص من داخل المجال السياسي ومن خارجه من يحاولون إعادة السياسة إلى الأخلاق ولكن يبدو أنّ الموجة من الشمول والشدّة ما يتجاوز إرادة الأشخاص ويحتاج إلى تحويل تلك المحاولات الفردية إلى خطّة استراتيجية ينخرط فيها كلّ من يدرك خطورة استمرارها من القوى الوطنية ومن المنظمات المدنية والأفراد
بقلم نزيهة جويرو