عندما فاز المنصف المرزوقي بمقعد في المجلس الوطني التأسيسي بحصوله على سبعة آلاف صوت، كانت فرحة راشد الغنوشي تفوق فرحة المعني بالأمر. ذلك أن الغنوشي يجد فيه الشخص الأمثل ليكون عون النهضة في قصر قرطاج. ولقد تمكّنت النهضة من فرضه على أغلبية أعضاء المجلس كرئيس مُؤقّت للجمهورية، على أن يقتصر دوره على رمي الورود في البحر عندما يطرأ حادث لزورق يُقلّ مهاجرين غير نظاميّين
نزع المرزوقي ربطة العنق تباركا بالغنوشي، بعد أن لبسها طوال حياته، ثم قال: « أنا أول رئيس مُنتخب للجمهورية التونسي، وسأتعامل مع السافرات والمُنقّبات… ». وهو تصريح فهم من خلاله التونسيّون أن كلام هذا الرجل لا يتماشى بالضرورة مع ما يتطلّبه المنطق والعرف
بالمناسبة، أذكر أنني حضرت حفل استقبال نظّمته رابطة حقوق الإنسان في أفريل 1989، تكريما لوزراء جدد أصيلي الرابطة، محمد الشرفي وسعدون الزمرلي والدالي الجازي، حضره طبعا المنصف المرزوقي، الرئيس الجديد للرابطة، وجمع غفير من الرابطيين والحقوقيين والدبلوماسيين. خلال ذلك الحفل، شاءت الصدف أن وجدت المرزوقي واقفا بجانبي، فقلت له « قرأت في الأيام الأخيرة كتابك (متى ستطأ أقدام العرب أرض المريخ) ». فأجابني « يا لها من شجاعة ». جواب المرزوقي جعلني أظن أن الرجل متواضع وشاعر بنقاط ضعف الكتاب، ممّا شجّعني على مواصلة الكلام لإبداء رأيي في الكتاب قائلا: « أبدأ بالعنوان. فالمريخ ليس له أرض، إذ أن الأرض والمريخ كلاهما كوكب مستقل عن الآخر. كان عليك القول (سطح المريخ) بدل (أرض المريخ) ». وفي لحظة الانتهاء من نطق هذه الجملة، تغيّرت ملامح وجه المرزوقي وأخذ يصيح في وجهي قائلا « أنت تريد تحطيمي… » وكلاما آخر لم أفهمه. ومن شدّة الصياح سكت كل من كان في القاعة وأخذوا ينظرون إلينا (بل إليه) بكل استغراب. فتوجّه المرحوم الدالي الجازي نحوي، وأخذني بين أحضانه وتوجّهنا نحو باب الخروج، مُتوسّلا إليّ : يكون العقل منّك يا منير، أخرج خلّيه يهدأ
أقصّ هذه الحكاية حتى نُحاول البحث عن المنطق وعن السكينة في ذهن وفي نفسية المرزوقي، وحتى لا تُفاجئنا أقواله وأفعاله. وما دعوته الدولة الفرنسية للتدخّل في شؤون بلادنا الداخلية إلّا هراء غير مدروس لا يرتقي إلى مستوى الخبث والخيانة كما يُقال هذه الأيام هنا وهناك، لأن الخبث والخيانة يتطلبان قدرا أدنى من الفطنة يفتقده المرزوقي. وعليه، فإن « معالجة » أقواله وأفعاله يتطلّبان تخصّصا لا أتقنه
لكن ما يجب الانتباه إليه هو أن مساعي المرزوقي ضد تونس، دولة وشعبا، وخاصّة ما قام به « بكل فخر » في سبيل إرجاء القمة الفرنكوفونية في تونس، لا يُمكن فصله عمّا سبق من محاولات الإساءة لبلادنا من قبل الإخوان، أعداء الوطن، الذين لا يُؤمنون بالدولة، بل هم ما انفكّوا يعملون على زعزعة أسسها ومُؤسساتها. ونذكر جميعا دعوة أحد قادتهم، رضوان المصمودي، الأمريكيين لعدم مساعدة تونس في الظرف التعيس الذي عشناه خلال الأشهر القليلة الماضية من قلّة التلاقيح ضد فيروس الكورونا. أليس في ذلك دليل على أن الهدف الأول للإخوان هو الإضرار بالشعب التونسي، حتى في صحّته وفي حياته؟
كما نذكر أيضا المليارات التي أنفقتها حركة النهضة، عن طريق مؤسسة مختصّة في تحريك اللوبيات، من أجل تأليب الكونغرس الأمريكي ضد المصالح التونسية، وهو عين الإجرام. وكل ذلك طبعا من أجل إعادة الأمل للحركة في أن تسترجع نفوذها في تونس، وإعادة الأمل لشخص راشد الغنوشي للحفاظ على الموقع السياسي الذي كان يحتلّه قبل 25 جويلية الماضي
ليس بالجديد على التونسيين أنه، خلافا للمبدأ المفترض أن يكون شعار كل حزب وطني والقائل بمصلحة « الوطن ثمّ الحزب ثم الأشخاص »، فإن حركة النهضة دأبت على تكريس شعار « الغنوشي ثمّ النهضة ثمّ الوطن »
ما يُمكن استنتاجه من هذه الأفعال يُمكن، في نظري، تلخيصه في جانبين
أولا، إن حركة النهضة الإخوانية ما زالت تحاول العودة إلى السلطة، ولم تعِ بعد بأن مركبها قد غرق نهائيّا وأن وجودها في السلطة في بلادنا أصبح صفحة تعيسة من صفحات كتب التاريخ. أما عن الولايات المتحدة فيبدو أنها تغضّ الطرف عمّا حدث لها ذات 11 سبتمبر على أيدي الإسلاميين المُتطرّفين، وما حدث لسفارتها في تونس على أيدي نفس الطائفة، وكل ذلك من أجل إبقاء نفوذها في المنطقة باعتبار أن حركة النهضة هي أكثر الأحزاب التونسية طاعة للسياسة الأمريكية. ولا بدّ للأمريكيين أن يعوا بأن الدعم الذي قدّموه للإسلام السياسي منذ سنة 2011 لن يكون كافيا لحركة النهضة كي تستعيد سلطتها بعدما عاشه الشعب من ويلات حكمها
ثانيا، إن تحرّكات الغنوشي والمرزوقي ضد مصالح تونس دولة وشعبا أفرزت مواقف جل الأحزاب والمنظمات وجمعيات المجتمع المدني المُندّدة والغاضبة، بقطع النظر عن مواقف هؤلاء من شخص رئيس الجمهورية ومن سياسته، سواء كانت مساندة له أو معارضة. وهو ما يُثلج الصدور، حيث تبيّن أن وطنيّة التونسي لا تُزحزحها خزعبلات أشباه السياسيّين
منير الشرفي