مطبّات بالجملة في خطاب الرئيس

رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور… هكذا جاء في الفصل 72 من دستور تونس الجديد لعام 2014، لكن يبدو أن لساكن قرطاج الحالي رأيا آخر لم يعد سرّا فقد جاهر به في أكثر من مناسبة وقد تقدم أشواطا كثيرة أول أمس الثلاثاء 15 جوان 2021 في بيان مشروعه ومقاربته عندما استقبل مجموعة من الضيوف وخطب فيهم وللتونسيين بشكل عام باللغة العربية القحّة كالعادة أيضا غير مبال بالارتدادات والتداعيات

والمؤسف أن الخطاب شكلا ومضمونا، بدا غير متجانس مع متطلبات اللحظة في تقديرنا ومقتضياتها، فالبلاد تكابد حربا غير متكافئة على وباء الكورونا الذي أنهكنا، كما انهمكت العائلات التونسية في أجواء امتحانات ومناظرات آخر السنة وأهمها على الإطلاق الباكالوريا التي انطلقت أمس وكان حريّا برأس الدولة أن يبعث الأمل في أكثر من 140 ألف عائلة تونسية بشدّ أزرها والإشادة بالمصعد الاجتماعي المتمثل في التربية والتعليم، دون أن ننسى جراح واقعة سيدي حسين السيجومي وسحل الطفل وتواصل الاحتجاجات في المنطقة وجميع هذه الملفات الحارقة وغيرها وليدة أزمة منظومة الحكم بطبيعة الحال أو هي تتغذّى منها وتتضخم بواسطتها مثل كرة الثلج

شكلا، ومن خلال ما جادت به رئاسة الجمهورية من تدوينات وتسجيلات تداولتها أيضا وسائل الاعلام، فإن اختيار رئيس الجمهورية لرؤساء الحكومات السابقين والاجتماع بهم بحضور ساكن القصبة الحالي مثير للجدل فـ «العركة» بين رأسي السلطة التنفيذية يجب ان لا تؤدى الى ازدراء أحد الرأسين واجتناب اللقاء دون حضور «الشهود» وهي أصبحت عادة في قرطاج للأسف

ثانيا، باستثناء مهدي جمعة الذي لم يحضر الاجتماع وكانت ولايته محددة وفق الحوار الوطني وخارطة الطريق فإن البقية ونقصد بهم علي العريض وحمادي الجبالي والحبيب الصيد ويوسف الشاهد والياس الفخفاخ فكلهم خرجوا من الباب الصغير، استقالة أو إقالة أو تصريف أعمال بعد بيان الفشل فهل يُعتد برأي الفاشلين؟

ثالثا، إن حضور أحد الرؤساء «المقالين / المستقيلين» بسبب شبهة تضارب المصالح وقبول ذلك من ساكن قرطاج يرفع نظريا الحواجز أمام تأدية الوزراء الجدد في تحوير 26 جانفي الماضي والموصومين بنفس الشبهة أمام رئيس الجمهورية 

رابعا، مرة أخرى تقف الصورة والصوت عند «الريّس» ولا نخال أن الحاضرين معه كانوا أشباحا ونجازف بالقول أنهم تكلموا ولو بصوت خافت في محضره ومن حق التونسيين عليهم معرفة ما قالوه وإن لم يقولوا فعلى الأقل بيان تأييدهم لما قال سيادته ولسنا مضطرين في النهاية لملاحقتهم لمعرفة مواقفهم، صحيح أن المجالس بالأمانات كما يقال لكن موضوع الجلسة يهم التونسيين بكل المقاييس

نفس الشيء بالنسبة إلى المضمون، المطبّات بالجملة ونعتقد أن خطاب الرئيس استفزّ الكثير من التونسيين في مواقع مختلفة، كما قفز على بعض الحقائق التاريخية التي كان وراءها إجماع في الداخل والخارج على حد سواء علاوة على الزيادة في السرعة والهرولة لإعلان ما يمكن أن نسمّيه : التأسيس الجديد

أجل لقد كان قيس سعيد أوضح مما مضى في الإعلان عن مشروعه السياسي حين عبّر أمام ضيوفه عن استعداده للحوار مشترطا أن تكون : أهمّ محاور الحوار هي التفكير في نظام سياسي جديد وفي نظام انتخابي جديد حتى يكون كل من يُنتخب مسؤولا أمام ناخبيه وليس هذا بالبدعة

واعتبر سعيد أن الحوار الذي ينشده ويعنيه قد يكون حول مرحلة انتقال إلى حالة جديدة في انتظار النظام السياسي الجديد وهذا رأي للنقاش السياسي والقانوني والأخلاقي لأنه يفترض في تنفيذه العودة إلى الدستور المُراد الثورة عليه والمرور الناعم بواسطة الاستفتاء الذي يقرّه في متنه لبلوغ «العهد الجديد

والمؤسف هنا أن يسيء ساكن قرطاج اليوم الى ما سبق من تضحيات منذ ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة وأن يتحدث بالسلب عن «الحوار الوطني» الذي عرفته البلاد في 2013 واعترف به العالم، وقد عبّد لهذا الطريق دم شهدائنا شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي وكثيرون من بواسل مؤسستينا الأمنية والعسكرية وحتى من المدنيين

غريب أن يقال أن الحوار الذي جنح اليه الوطنيون بالقوة كما أسلفنا «لم يكن وطنيا على الإطلاق» فكيف يفسر سيادته وصوله الى قرطاج؟
مسألة أخرى على غاية كبيرة من الخطورة هي الانتقال هذه المرة من الحديث عن «الأطراف» وعن «الانقلاب» وعن «افتكاك الصلاحيات» الى الحديث عن «الاغتيالات» ويقول رئيس الجمهورية هنا أنه ثمة من : ذهب إلى الخارج سرّا بحثا عن طريقة لإزاحة رئيس الجمهورية بأي شكل من الأشكال وأعي جيدا ما أقول حتى بالاغتيال ..بئس ما خططوا وبئس ما فعلوا وسيعلم ان شاء الله الذين ظلموا والذين كانوا جلاويز مخبرين اي منقلب ينقلبون

هذا كلام رأس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة فيها ورئيس مجلسها للأمن القومي وممثلها في المحافل الإقليمية والدولية والذي كان من المفترض أن يتوجه الى القضاء العسكري لأن الأمر يتجاوز شخصه ويمس رمز وحدة الدولة وضامن استقلالها واستمراريتها والساهر على احترام دستورها 

أغرب من ذلك، وبعيدا عن الدبلوماسية الاقتصادية والدفاع عن المصلحة المشتركة وإقامة الشراكات وإبرام الاتفاقيات، عاد الرجل الى موضوع الأموال المنهوبة ورمى بالكرة لمن سبقوه وفشلوا في استردادها لتبرير تدهور الأوضاع الاجتماعية وتفاقم البؤس

بالفعل لقد عيل الصبر وطال الانتظار وبلغ السيل الزبى وأتت اللحظة التي يستلهم فيها رئيس الجمهورية كما قال من خلال رؤساء الحكومات السابقة حلولا ويستشرف بعض الآفاق الجديدة لتقديم اقتراحات مختلفة تتماشى مع مقولة «الشعب يريد»، فمن يدري لعل الفشل يفضي إلى النجاح؟

بقلم : مراد علالة