مجتمع الميم: الحلقة الأضعف

تناسى البشر أنهم في الأرض لا في السماء، صدّروا الرحمة لها والمحبة لها وكل القيم النبيلة، وبقيت الأرض تتقاسم فتات هذه القيم، مع أنّ الرحمة أولى بالأرض ومن عليها، فالسماء لا تحتاج إلى مساعدة منا أبدا.. ورغم كل ذلك يتناسى البشر أنهم قادرون على المحبة والحياة دون أن يسفك أحدنا دم الآخر

تتعدد الأعراق والأديان والطوائف وتتعدد التوجهات السياسية في كل رقعة من هذه الأرض، وبطبيعة الحال تتباين مواقف مواطني أو سكان المجتمعات في العالم

تجاه مجموعة واسعة من القضايا السياسية والدينية والاجتماعية والبيئية وغيرها، ونجد اختلاف المواقف من العلاقات والاختيارات الجنسية للأفراد، بما في ذلك المواقف من الجنسية المثلية والمتحولين جنسيا، من كل مجتمع الميم
سنة وشيعة وبينهما مذاهب كثيرة في الإسلام، كل يحتكر حقيقة ربّه ودينه.. مسيحيون أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت وبينهما طوائف كثيرة وكل يحتكر الحقيقة أيضا.. اليهودية الأرثوذكسية واليهودية الإصلاحية واليهودية المحافظة.. وبينها ملل ونحل.. وأديان أخرى تحتكر الحقيقة، أو لنقل تحتكر حقائقها، هندوس وبوذيون وسيخ وبهائيون وغيرها من الديانات والمذاهب.. ظهرت ديانات وانقرضت .. ومازالت أخرى تتجدّد وتنبت.. كل هؤلاء المتدينين يتقاسمون كوكب الأرض باختلافاتهم وصراعاتهم وحروبهم، بتعصّبهم وبتسامحهم أيضا
وهناك من لا يؤمن بهذا، ويعتبر أن هذه الأديان مجرّد معطى ثقافي وحضاري لا غير. وهناك من يولد على هذه الأرض ويموت بسبب الفقر والمجاعات والحروب حتى قبل أن يتعرّف على ربّه من لسان أهله وإرثهم الثقافي
وهناك متطرفون في كل أنحاء العالم يعتبرون كل المسلمين دواعش يجب نبذهم أو طردهم وهم في النهاية أقلّ إنسانية منهم.. وهناك أئمة يدعون ربّهم بأن : أهلك اليهود وأعداء الدين
في أيّ رقعة جغرافية من هذه الأرض ستجد المتعصبين ضد ديانة ما أو مذهب ما أو ثقافة ما.. ويموت المختلف، أي مختلف، وحيدا، أو يقتل، وينسحب من هذه الحياة مكتفيا من مرارة مجتمع أو نظام أو فئة من البشر
على مرّ التاريخ قتّل المسلمون بعضهم، طوائف كفّرت طوائف وذبّحتها، وكل يحتكر حقيقة ربّه، سفكوا دماء المختلفين عنهم. ابن سينا الطبيب والفيلسوف لقّبوه بإمام الملحدين وشيخهم، كفّره حتى الغزالي نفسه في كتابه المنقذ من الضلال، أحرقوا كتبه ونسوا أنّ للأفكار أجنحة.. المعرّي أيضا ذلك الشاعر والفيلسوف والأديب اعتكف وسجن نفسه بنفسه إلى أن توفي، من شدّة تعصّب مجتمعه، الذي لا يستوعب الأفكار ولا يفهم بالاختلاف، ولا يقدّر فيلسوفا ولا عالما.. نذكر على سبيل الذكر لا الحصر أيضا الأديب الحكيم عبد الله ابن المقفع، الذي لم يكفّر فحسب بل قتل في سيناريو أشنع من سيناريوهات «داعش» الارهابي في زمننا القريب، حيث أخذ رجال والي البصرة في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، بتر أعضائه، وتفننوا في قطعها ليرموا بها في مرجل.. الحلاج أيضا اتهم بالكفر فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط وقطعت يداه ورجلاه وضرب عنقه وأحرقت جثته، وقبيل قطع رأسه طلب أن يصلي ركعتين لله وهو مقطع الأوصال وقال بيته الشهير : ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم
واتهمت الكنيسة الكثير بالهرطقة وحقرتهم أحياء أو فصلت رؤوسهم عن أجسادهم بالمقصلة خاصة زمن محاكم التفتيش
وتقول الآثار القديمة، أنهّ منذ نشوء الحضارات الأولى للإنسانية، كان العلماء والفلاسفة، موضع انتقاد واتهام، لأنهم فسروا الكون والحياة بمنظار مختلف
فقد يكون لكل عصر مختلفون، ممن نعرفهم ولا نعرفهم، لا نقصد أصحاب الأفكار الجديدة، ولا الفلاسفة أو العلماء فقط، بل جميع أولائك المختلفين، ممن يريدون أن يروا الكون بمنظارهم هم لا بأحكام مجتمعهم أو نظامهم
سارة حجازي، هذه الناشطة المصرية النسويةُ الكويرية والمدافعة عن حقوق الإنسان ومجتمع الميم، فارقت الحياة منذ أيام، وُجّهت لها عدةُ تُهم كالتحريض على الفجور لمجرّد أنها حملت علمَ الفخر في حفلة مشروع ليلى.. وبعد جولات من الضغط والإضطهاد والهرسلة واليأس قررت إنهاء حياتها وتركت العالم لنا لنبحث عمن نختلف معه حتى نعزله أو نحاكمه أو نجرّده من كرامته أو نقوده إلى الإنتحار
سارة حجازي، ربما يختلف الإسم هذه المرّة، لكن المعاناة تتكرّر دائما، في أغلب بلدان العالم يحدث هذا خاصة في الدول العربية، أصبحت أخبار تعذيب المثليين وسجنهم لأجل ما هم عليه أخبارا يومية. وهناك من سُجنت أجسادهم، عُذّبت، خُرّبت، أهينت، نُكّل، بها تحرّر أرواحهم وعقولهم وأقلامهم
لا أعرف متى يفهم المتعصبون أنّ الله لم يوكل أحد ليحمي شرائعه التي يمارسها البشر بوعيهم هم وثقافتهم، فداعش تعلّلت أيضا بالنهي عن المنكر والأمر بالمعروف وأعدمت المثليين في العراق وسوريا برميهم من الأماكن العالية.. والكنيسة في العصور القديمة كانت تخصي المثليين أو تحرقهم
غريب أمر البشر، كل يريد أن يرى الآخر مثله، يفكّر كما يفكر ويرى الحياة كما يرى.. وإلى اليوم نتحدّث عن الحريات العامة وندير وجوهنا عن الحريات الفردية، بل ونضعها في خانة الهيمنة الثقافية الامبريالية، وننسى دائما أن الحرية في النهاية ليست إلا حقك في أن تكون مختلفا
فالعلاقات الجنسية غير النمطية، لم تخلق فجأة بل كانت موجودة في كل المجتمعات، ويمثل هذه الأفراد جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمعات بكل تنوعاتها العرقية والطائفية والثقافية، وليسوا غير أنهم مازالوا يتعرضون لقهر القوانين الجائرة و للظلم والعنصرية والقمع والاعتقال التعسفي والتصفية
ففي تونس العجيبة يمنح الدستور الحق في أن تكون مختلفا ويضمن بذلك الحقوق والحريات إلّا أنّ القانون في الفصل 230 يجرّم المثلية الجنسية..
قبل 179 سنة، كانت هنالك أسواق لبيع البشر في تونس، أسواق العبيد إلى أن منع الرق، شيئا فشيئا استردّ هؤلاء نوعا من كرامتهم، ولكن الجروح النفسية تبقيت متوارثة، حتى عندما نتحدّث عن العنصرية التي تدينها معظم دساتير البشر، مازال حطبها مشتعلا في ممارسات بعض الناس أو الأنظمة، غير أنّ قوانين العالم تدينها.. وهذا تقدّم بطيء.. سببه عنجهية الإنسان وجهله بأنه الأفضل ومعتقده الأفضل وعرقه الأفضل وجنسه الأفضل
وكأنّ الانسان يبحث في كل عصر عمن يضطهده.. ففي أوقات الحرب تستنجد الجيوش بالجميع، بالنساء وبالسود وبالمثليين، كل يستطيع أن يقدّم شيئا ما، ولكن في أوقات السلم تعود المجتمعات إلى الرخاء وتظهر الأمراض الدفينة من جديد.. تناسى البشر أنهم في الأرض لا في السماء، صدّروا الرحمة لها والمحبة لها وكل القيم النبيلة، وبقيت الأرض تتقاسم فتات هذه القيم، مع أنّ الرحمة أولى بالأرض ومن عليها، فالسماء لا تحتاج إلى مساعدة منا أبدا.. ورغم كل ذلك يتناسى البشر أنهم قادرون على المحبة والحياة دون أن يسفك أحدنا دم الآخر
ولكن خطيئة البشر أنهم صدّروا كل قيمهم الجميلة إلى السماء.. ربما حان الوقت أن ينظر الإنسان إلى نفسه ويقول أنا الخالق، ربما فقد الإنسان القدرة على الخلق فخلق الفوضى من نفسه ومن العالم

بقلم سيماء المزوغي