لكل دولة مشروع ثقافي مبني عادة على توجهات عامّة تسعى إلى تثبيتها بواسطة مختلف أصناف الإنتاج الثقافي والفكري والفني حتّى تكتسب تلك الثقافة مقوّمات تساهم في بناء الشخصية القاعدية لعموم المواطنين وفي خلق روابط الانسجام بينهم بفضل تمثلهم لتلك الثقافة في سلوكهم وفي نمطي عيشهم وتفكيرهم. وبفعل خطورة وظائف الثقافة بالنسبة إلى الشعوب والدول توضع الخطط والاستراتيجيات لتطويرها وللمحافظة على مقوّماتها وعلى توجّهاتها العامة ولحمايتها ممّا قد يتهدّد انسجامها وخصائصها، وتوظّف المناسبات الثقافية الكبرى المحلية منها والعالمية من أجل الترويج لها وتثمينها وتطويرها. وتمثل معارض الكتب إحدى هذه المناسبات التي تحرص خلالها الدول وتتنافس على تقديم أفضل ما عندها وعلى استقدام أفضل ما عند الآخرين. وقد رأينا في معرض تونس الدولي للكتاب نماذج من منشورات كثير من البلدان المشاركة مثلما رأينا ما نشرته دور النشر التونسية وتابعنا الكثير من الأنشطة الثقافية التي رافقت المعرض ومثلت مناسبات إما للحوار حول العديد من القضايا أو للتعريف بإصدارات جديدة أو للقاء بأعلام الفكر والإبداع والثقافة ومحاورتهم. واليوم وقد انتهى المعرض يحق لنا أن نقيم الحصاد وأن نبدأ من الآن الإعداد للدورة القادمة
إن أول ما يلفت النظر عند ملاحظة نوعية المنشورات الغالبة في دور النشر العربية خاصة هو الحجم الطاغي للمنشورات التراثية عامّة والدينية وما يجري مجراها بصفة خاصة، وهذه ملاحظة لا تخصّ هذه الدورة ولكن لن نتوقف عن تكرارها كلما تكرّرت الظاهرة ولفت النظر إلى ما قد يكون لها من آثار. ويمثل هذا الحجم في نظرنا علامة واضحة على أن الثقافة العربية مأزومة حقاّ، عالقة في ماضيها تتفاعل مع الحاضر ومعارفه باحتشام كبير. إذ تتراوح هذه المنشورات بين قديم يعاد نشره باستمرار ويتكرّر في عدد كبير من الدور. فالمؤلَّف الواحد قد تجد منه عشرات، بل وأحيانا المئات، من الطبعات التي تجدها في دور نشر من مختلف البلدان العربية، على غرار مجاميع الحديث النبوي وكتب تفسير القرآن والمدونات الفقهية ومجاميع الفتاوى وحتى بعض المؤلفات التاريخية الموسوعية القديمة، و »جديد » زمنيا ولكنه قديم المضمون يستعيد ما يوجد في مؤلفات تعود إلى قرون خلت على غرار مؤلفات الدعاة « المشهورين » الذين يروّجون لأفكار الكثير منها إيديولوجي يتغطّى بالدين. ولئن كنا غير متأكدين إن كانت الغاية من اقتناء هذه المنشورات هي قراءتها أو هي غاية « تزويقيّة » لا أكثر فإن هذا لا ينفي دلالتها على ثقافة ماضوية مازالت عالقة في القرون الخوالي عاجزة عن التفاعل مع العصر ومع معارفه وما شهد من مراجعات لكل أصناف المعرفة البشرية بما فيها المعرفة الدينية، بل إن الكثير من المنشورات المنتمية إلى هذا الصنف تبدو متخلفة حتى عن المصادر الأقدم لأنها تروج لخليط من الديني الشعبي والخرافي والأسطوري ولوصفات هي أقرب إلى الشعوذة منها إلى أي صنف آخر من أصناف المعارف تقدم إلى القراء في شكل كتيبات زهيدة الثمن من صنف كتب الأدعية التي تكثّر المال وتسهل الرزق، وتلك التي تشفي من الأمراض وتعالج حتى المستعصي منها وتلك التي تقي من العين والسحر والحسد وأخرى تخلّص من عذاب القبر وتضمن السعادة في الدنيا والخلاص في الآخرة… ولا شك أن ترويج مثل هذه المنشورات إنما هو في الوقت ذاته ترويج لذهنية أسطورية تصدق بالخوارق ولعقلية التواكل والتسليم والاستسلام، ولا شك كذلك أن الكثيرين من ناشريها ومن مقتنيها لا يدركون مخاطرها على العقول والذهنيات. ورغم أن معرض تونس للكتاب يعدّ من أقل المعارض العربية ترويجا لمثل هذه المنشورات، ورغم أن لجنة العارضين تحاول في كل دورة أن « تعقلن » هذا السيل من منشورات تهدّد مكتسبات المعارف العلمية الحديثة وتتعارض مع التوجه الثقافي التونسي الذي أسسه المصلحون التونسيون ودعمته أجيال من المثقفين العاملين على تدعيم ذلك التوجه العقلاني والتنويري ، وذلك عن طريق اشتراط نسبة معقولة من المنشورات الجديدة حتى يسمح للعارضين بالمشاركة في المعرض، رغم ذلك يعمد بعض العارضين دائما إلى طرق ملتوية تمكنهم من تسريب منشوراتهم يبدو أن دافعهم الأول مادي في الأساس دون أدنى اعتبار لجدواها أو لقيمتها العلمية أو الفكرية أو حتى لما تحمله من مخاطر منها التطرف والانغلاق ولما تروج له أحيانا من توجهات عنيفة. رغم هذا الشرط يظلّ الإشكال مطروحا في مستوى المؤلفات « الجديدة » ونسبة هامة منها ليس لها من الجدّة في الحقيقة سوى زمن صدورها وانتساب مؤلفيها زمانيا إلى الحاضر بينما الكثير منها « أقدم » من القديم وأخطر منه لأنها كتب دعائية لفائدة توجهات سياسية إيديولوجية تتستر بالدين لا غير. فهل قدر معارض الكتب العربية أن تقبل بهذه الرداءة باسم حرية النشر وحق كل البلدان في المشاركة وفي عرض منشوراتها أم إن من مسؤولياتها أن تتحول إلى مناسبة لنشر ثقافة جديدة تنتسب حقّا إلى العصر ومعارفه وثقافته وقضاياه وأن تتيح للقارئ العربي أن يطلع على ما تحققه المعارف في مختلف الاختصاصات في آفاق أخرى من العالم وبلغات أخرى من تقدم مذهل؟ هل نخشى من انحسار عدد العارضين والمشاركين أكثر من خشيتنا على العقول التي نريد أن نبنيها على أساس الفكر العقلاني والتفكير النقدي؟ هل نخشى أولئك الذين يدافعون عن هذا النوع من الإنتاج بدوافع لا تخفى يغلّفونها بشعار الدفاع عن حرية التفكير والنشر والتعبير أكثر مما نخشى على عقول أطفالنا وشبابنا وعلى نوعية المعرفة التي نريد أن ننشئ عليها الأجيال الصاعدة ونوعية الثقافة التي نريدها ثقافة متجهة نحو المستقبل بانية لشخصية المواطن المتوازن والمثقف والمبدع؟
إن الظاهرة التي عبر لنا عدد من رواد المعرض عن انزعاجهم منها لا تخفي عنا ما حفل به كذلك من إنتاج جيد في كل المجالات الإبداعية والفكرية، إنتاج متنوع المشارب والتوجهات يسعى إلى أن يفتكّ لنفسه موقعا ضمن اهتمامات الروّاد والزائرين والقراء عامّة وجد لنفسه موقعا في المعرض ولقي إقبالا من زائريه، وهو يعبّر عن الحركية الفكرية التي تعيشها بعض البلدان وتعيشها الثقافة العربية عامة وهي تعالج قضايا الراهن ومشكلاته وتحاول أن تجيب عن أسئلته وأن تستجيب لتطلعات المستقبل وأجياله. هذا إضافة إلى ما انتظم بالتوازي مع المعرض من أنشطة إبداعية وثقافية وفكرية مثلت للكثيرين فرصة للتعريف بأعمالهم مثلما مثلت لآخرين فرصة للتعرف إلى أعلام وإلى مؤلفات وتوجهات إبداعية وفكرية وللمشاركة في حوارات لا شك أنها تمرين على التفاعل والاعتراف وقبول الاختلاف.
لا شك أن التونسي يتطلع دائما إلى الأفضل ولذلك يميل عادة إلى التركيز على ما يراه نقائص ويصرف نظره عن المزايا ولا يعترف لمن اجتهد بفضل، وأودّ أن أقول في آخر هذا المقال إنّ تونسنا الحبيبة في حاجة إلى أي مجهود يبذل مهما كان بسيطا وفي أي موقع مهما بدا غير مؤثر، فبهذه الجهود الصغيرة المتضامنة تبنى المشاريع الكبرى وتستقيم، وكم نحن في حاجة إلى هذا حتى تستعيد موقعها رائدة للتجديد والتحديث صانعة لثقافة التحرير والتنوير
بقلم زهية جويرو