لن تُصبح أبدا تونستان

الحدث الأول: إذاعة « القرآن الكريم »، المُختصّة في السب والشتم وبثّ ثقافة التكفير والعنف، ليس لها الترخيص القانوني للبث. في دولة القانون والمؤسسات، يُفترض أن يتمّ تجنيد الأمن الوطني والقضاء العدلي لمنعها من البث. إلا أن قيام الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري بواجبها القانوني، جُوبه برد فعل من أغرب ما يكون، إذ دُعي رئيس الهيئة وعدد من أعضائها إلى التحقيق كمُتّهمين بالسرقة ومحاولة الاغتيال. وعادت الإذاعة إلى البثّ غير القانوني مواصلة نفس الأراجيف، خارقة القواعد القانونية والأخلاقية بحماية من الدولة، وتجاوزا للهايكا التي هي هيئة دستورية سيادية

الدفاع عن هذه الإذاعة غير القانونية يُذكّرنا بمن دافعوا على مدرسة الرقاب. إذ أن كلا المُؤسستين يحمل اسم « القرآن »، ممّا يدفع بعض المتشددين الدينيين الأغبياء إلى مناصرتهما بتعلّة حملهما لهذا الاسم، تجاوزا للقانون وبقطع النظر عن طبيعة نشاطهما

الحدث الثاني: صرّحت النائبة والمحامية ليلى حداد أن الإرهابي منفذ عملية رمبوياي زار مُؤخّرا مجلس نواب الشعب في باردو بدعوة من ائتلاف الكرامة. تصريح يُضاف إلى ما أكّدته النائبة عبير موسي بأن الدواعش الإرهابيين يصولون ويجولون في المجلس دون رقيب أو حسيب. وهو ما يُفسّر أيضا ما قام به رئيس تلك الكتلة ذات ليلة مشهودة من دفاع مستميت وعنيف عن داعشية مُصنّفة س 17 في مطار تونس-قرطاج للتنقل بين تونس والخارج

غضّ الطرف عن التصرفات الداعشية الخطيرة من قبل اعدد من كبار المسؤولين يطرح تساؤلات عديدة حول علاقة السلطات بمختلف مُكوّناتها بالملفات المُتّصلة بالإرهاب وبالإسلام السياسي

الحدث الثالث: يتمثّل في الاحتفال الرسمي للحكومة، مُمثّلة في رئيسها، بذكرى غزوة بدر، التي تُصادف ذكرى ذبح جنودنا في الشعانبي. ومعلوم أن الأعياد الدينية التي يحتفل بها التونسيّون منذ زمن بعيد هي عيدا الفطر والأضحى والمولد النبوي، كما دأب الرسميّون باعتبارهم يُمثّلون الأغلبية المسلمة من الشعب، على حضور احتفال أحد الجوامع التونسية بليلة 27 رمضان

تحوّل رئيس الحكومة إلى جامع عقبة بن نافع بالقيروان للاحتفال بغزوة بدر يُعتبر بدعة ستؤدّي ربما، إذا تمادى المشيشي في سلوك هذا النهج، إلى جعل ذكرى غزوة بدر عيدا سنويّا، ولِمَ لا، الاحتفال مستقبلا بذكرى بقية الغزوات، وعددها تسع عشرة غزوة

الأحداث الثلاثة لها قاسم مُشترك، وهو السير بالبلاد إلى الدولة التيوقراطية يتفوّق فيها الاهتمام بالمسائل الدينية عن المسائل الدنيويّة، وتبقى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية ثانويّة في سياسة الدولة. وهو ما أصبحنا نعيشه اليوم. واستقبال رئيس الحكومة في القيروان من قبل المواطنين بصيحة « ديقاج » أكبر دليل على أن القيروانيين لا ينتظرون من ممثلي الدولة الاحتفال بالغزوات وإنما بالاعتناء بمشاكلهم الحياتية المتراكمة

يبدو إذن أن هشام المشيشي، رغم كل الأزمات التي تُعاني منها البلاد، يُولي أهميّة كبيرة لما يُرضي وسادته السياسية حفاظا على منصبه، حتى إذا كان ذلك على حساب مصالح الشعب، بل وحتى إذا كان ذلك على حساب طبيعة الدولة وطبيعة النظام السياسي في تونس

فبعد الانشقاق الذي حصل في كتلة حزب « قلب تونس » وما أصبحت تتّسم به من هشاشة، أضحى الحزام البرلماني للحكومة يقتصر على ممثلي الإسلام السياسي المتكوّن من حركة « النهضة » ومن ذراعها التكفيري العنيف. وهو ما يُفسّر التغاضي عن التطرّف المُفزع الذي أصبحت تتّسم به سياسة الحكومة ويُظهره بعض القضاة الموالين له

فالتطرف الديني العنيف لم يعد مُجرّد ظاهرة محدودة، وإنما هي الآن استراتيجية سياسية يُراد من الشعب التونسي التعوّد عليها والتطبيع معها. استراتيجية يرسمها الإخوان ويُطبّقها أصحاب المصالح الشخصية الضيّقة. ففي البرلمان، ذلك المكان المُقدّس الذي يُمثّل سيادة الشعب، لم تعد تُفاجئنا أخبار شبهات الفساد التي تحوم حول العشرات من أعضائه، ولا العبارات البذيئة المُتداولة في صلبه مثل « عبد الله قش » و »سكّر فمك » و »يا هاملة ». كما لم يعد يفاجئنا عدد أبنائنا الذين صدّروهم لاغتيال الأبرياء وعدد بناتنا الذين صدّروهن لجهاد النكاح. ولم تعد تُفاجئنا الدعوة إلى اللجوء إلى القضاء العسكري أو إلى القضاء الدولي كلما تعلّقت القضية بالتطرف الديني

وفي حين تعمل دول الخليج، معقل الوهابية، وعلى رأسها السعودية، على التخلص من المذاهب الإسلامويّة العنيفة والتكفيرية وتتّجه نحو التحرّر والتقدم، وفي حين تتراجع قطر وتركيا عن احتضانهما للإخوانيّة الداعشية، تُصرّ السلطتان، التشريعية والتنفيذية، في بلادنا على مواصلة السير في اتجاه أخونة الدولة والمجتمع

لكن الشيء الذي يجهله مُسطّرو ومُنفّذو الاستراتيجيات السياسية في بلادنا هو أن تونس لن تُصبح أبدا تونستان، لأن الشعب التونسي الذي تعلّم في المدرسة العمومية منذ عشرات السنين مُتشبّع بالفكر المُستنير ومُتمسّك بمدنية دولته، ولن يقبل باستغلال محنة الكورونا لتمرير قوانين جائرة على غرار محاولات تعديل القانون الانتخابي وقانون الأحوال الشخصية، واستخراج جوازات السفر من البلديات وغيرها من المشاريع المُزمع تمريرها في اتجاه مزيد « التمكين » ومزيد أخونة البلاد

بقلم منير الشرفي