لنشرع في الحوار الوطني

الإجراء الذي اتّخذه الرئيس قيس سعيّد يوم 25 جويلية 2021، أيّده بعض رجال القانون وعارضه البعض الآخر. ولقد كنت أميل، كما هو الشأن للمرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة ولعدد كبير من المواطنين، إلى اعتبار أن تونس كانت تعيش آنذاك أزمة سياسية خانقة، وأن المشكل السياسي يستوجب حلّا سياسيّا. لذلك أيّدنا ذلك الإجراء، لا من ناحية مدى صحّته على المستوى القانوني والدستوري، وإنما من حيث ما يُنتظر منه من حلول سياسية عاجلة. وللتذكير، لم يكن ذلك التأييد صكّا على بياض وإنما اعتبرنا أنه خطوة أولى يجب أن تتبعها في غضون بضعة أسابيع، أو ربما شهرين أو ثلاثة، خطوات هامّة في سبيل إيجاد وتنفيذ الحلول الجذرية والجريئة للمشاكل القائمة في مختلف المجالات

غير أن ما حدث هو عكس ما انتظرناه. فلقد أصرّ رئيس الجمهورية على عدم إقامة حوار وطني ينظر بإمعان في الأوضاع المتداعية على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وحتى على الصعيد الثقافي، مع إمكانية استثناء من شارك في هدم أسس الدولة وإهدار المال العام من هذا الحوار. وكان بالإمكان الاستماع إلى الخبراء التونسيين في مختلف المجالات، وإلى بعض الأحزاب وعدد من جمعيات المجتمع المدني. غير أنه اكتفى بخبيرين اثنين للمشاركة في هيئة مُصغّرة، أغلبها من مُؤيّديه السياسيين، قاموا بصياغة دستور في وقت قياسي أُلقي به في سلة المهملات وتمّ تعويضه بنص يتنكّر لمدنية الدولة التونسية وللمبادئ الكونية لحقوق الإنسان، ويُؤسس للدولة الدينية ولنظام رئاسوي

خلاصة القول هو أن التمشي الذي أراده ونفّذه رئيس الجمهورية افتقد إلى عنصرين أساسيّيْن، هما الإسراع في إيجاد الحلول للحد من الفترة الانتقالية التي طالت سنة كاملة إلى حد الآن وما زالت متواصلة من جهة، ومن جهة أخرى تشريك ذوي الخبرة والكفاءة في تشخيص المشاكل القائمة ووضع برنامج دقيق لتجاوزها

والسؤال المطروح اليوم هو: هل أن قطار تونس انطلق بعدُ في السير على سكة حدّدها رئيس الجمهورية، أم هل أن تغيير وجهته نحو الطريق التي يُمكن الاتفاق حولها بشكل تشاركي ما زال قائما؟

الحل الأسلم، رغم صعوبته، يتمثل في اعتقادي في أن نبدأ بالبحث عن الجهات التي يُمكن أن تكون مساهمتها مُفيدة في رسم ملامح تونس المستقبل التي نُريدها

وهنا لا بدّ أن نعترف بأن الأحزاب، باستثناء اثنين أو ثلاثة، كان دورها سلبيّا إلى أبعد الحدود في العشرية الماضية، أو حتى بعد 25 جويلية 2021. فالأحزاب التي كانت في السنوات الأخيرة وازنة في الساحة السياسية، إمّا أنها وضعت نفسها بين أحضان حركة النهضة بشكل أو بآخر (التكتل، المؤتمر، نداء تونس، قلب تونس، تحيا تونس…) واندثرت بسبب ذلك، أو أنها عبّرت عن ضعف كبير جعلها خارج الحسابات السياسية، وإما أنها بقيت تُعاني من انقسامات وصراعات داخلية أطفأت شعلة اشعاعها ونجاعتها وحتى حضورها السياسي

أما المنظمات وجمعيات المجتمع المدني فهي تُعاني هي أيضا من نفس الظاهرة. فمنها ما ضعف نفوذه إلى حدود غير مسبوقة، ومنها ما يعاني من الانقسامات… أما تجميعها في صفّ واحد، فذلك يُعدّ من باب المستحيل بسبب الخلافات بينها، الجزئية جدا أحيانا، وبسبب الأنا المفرط لعدد من قياديها. حتى أنّك إذا طلبت من رئيس جمعية أن يدخل في ائتلاف مع جمعيات أخرى يشترط أن يكون هو قائد الائتلاف

فمن الذي سيُنقذ البلاد إذن؟

الجواب في نظري واضح جدّا. فإذا استثنينا التنظيمات بمختلف أشكالها، علينا أن ننتبه إلى كفاءاتنا غير المُتحزّبة وغير المنتمية إلى أي هيكل

فالجميع يعلم أن بلادنا تزخر بالكفاءات العالية وبأصحاب التجارب والحنكة والعلم والمعرفة. ومنهم من له صيت عالمي. لكن هؤلاء تناستهم السلطة منذ قيام الثورة. ففي العشرية الماضية عمدت كافة الحكومات إلى منح المسؤوليات في مختلف دواليب الدولة إلى الموالين إلى الأحزاب الحاكمة، وكان جلّهم عديمي الكفاءة والتجربة، لأن في نظرهم مصلحة أحزابهم تمرّ قبل مصلحة الدولة والشعب، وهو ما أدّى إلى الكوارث التي نعيش تبعاتها اليوم في كل المجالات. فهل سمعتم بمسؤول كبير يدعو نخب البلاد ليأخذ رأيهم في موضوع ما منذ 11 سنة؟ طبعا لا

والنتيجة أن فرّ جزء كبير من نخبتنا إلى الخارج، حيث يجدون من يعترف بكفاءتهم وبتجاربهم ومن يستغلّها لفائدة بلدانهم، في حين أن بلادهم في أشدّ الحاجة إليهم، لكنهم غير مرغوب فيهم من قبل السلطة

وعلى الذين بقوا في تونس، وهم كثر من حسن الحظ، أن يجتمعوا وأن يُنقذوا تونس، كما يُنقذ الطبيب المُختصّ طفلا عليلا، وذلك بتشخيص أمراضه بكفاءة وحنكة وجديّة، وبإعطائه الوصفة الطبيّة الصالحة لشفائه، لعلّ يكف أبواه عن تجاهل أمراض ابنهما أوعن اكتفائهما باستعمال الدواء : الرعواني

منير الشرفي