قرأتُ النصّ القصيرَ الذي كتبته السيدة آمنة الشرقي عن الكورونا محاكية به النص القرآني، ونصها نصّ أدبيّ خالص قد قصدت به كاتبته إظهارَ فداحة ما أصاب البلاد من كارثة بسبب هذا الوباء الوافد، والاستمدادَ من النص القرآني وسيلة فنية جيدة تمكّنها من التعبير عما يختلج في نفسها من المشاعر، ولم أجد في النص أي استنقاص من القرآن أو مس بالدين ، ومن أغرب ما بلغ إلى علمي أن السيدة الشرقي قد أحيلت على المجلس الجناحي بتهمة « الدعوة إلى الكراهية بين الأديان والأجناس والسكان وذلك بالتحريض على التمييز واستعمال الوسائل العدائية والنيل من إحدى المشاعر الدينية المرخص بها »، وليست هي تهمة واحدة إذن كما يلاحظ بل هي ستّ تهم، وقد بحثتُ في النصّ المُتّهم – وقد كتب بعربية صحيحة لا لبس فيها – فلم أجد أيّا من التهم الست، والظاهر أن المولعين بتأويل ما يدور في ضمائر الناس وسبق لهم أن اعترضوا على نماذج سابقة من التعبير الفني والأدبي هم الذين كانوا بالمرصاد لإثارة فتنة باسم الدين ما كان لها أن تُثارَ لو هم ميزوا بين التعبير الأدبي الفني الخالص والتأويل المذهبي الإيديولوجي لما يكتبه الكتّاب ويقوله الشعراء وينتجه الفنانون من مسرح وموسيقى وسينما. فالأديب والفنان مبتكران مبدعان ولا يمكن لابتكارهما وإبداعهما أن يبلغا أقصاهما إلا إذا استطاعا ارتياد الأبعاد المجهولة الخفية التي لم تُكْتَشَفْ بعد للابتكار والإبداع، على أن يكون ذلك في قالب فني يتجاوز المعهود المتداول من أساليب القول والتعبير. وقد كانت النصوص الدينية منذ القديم مصادر إيحاء للكتاب والفنانين، وقد نتجت عن إيحاءاتها نصوص أدبية رائعة ما زالت إلى اليوم حية تُقْرأ فلا تُملّ قراءتها وتُتَأَوَّلُ فلا َينتَهي تأوُّلها، ومن أشهرها رسالة الغفران لأبي العلاء المعري والكوميديا الإلاهية لدانتي. وقد درَسْنا ونحن تلاميذُ ثم درَّسْنا ونحن أساتذة رسالة الغفران لأبي العلاء ولم تثر من النقد ومن التهم ما أثاره نصّ قصير جدا في بضعة أسطر كتِبَ بعد رسالة الغفران بعشرة قرون تقريبا. ويكفي أن ننظرَ في شفاعة أهل البيت لابن القارح كي يجتاز السراط « زقفونة »، وأن نقرأ النص الممتع الذي يصور الشجار في مجلس شراب انتهى إلى « عربدة في الجنة » بين » نابغة بني جعدة » و »الأعشى أبي بصير » وما أسمَعَه النابغةُ أبا بصير من شتم ختمه بقوله : « اسْكتْ ياضُلَّ بن ضُلّ، فأقسم أنّ دخولك الجنّة من المنكَرات، ولكنّ الأقضية جرَتْ كما شاء الله! لحقُّكَ أنْ تكون في الدرَكِ الأسفَل من النار، ولقد صَلِيَ بها من هو خيرٌ منك، ولو جاز الغَلَطُ على ربّ العزّة لقلتُ : إنّكَ غُلِطَ بك! » [رسالة الغفران، تح بنت الشاطئ، ط. 8، 1990، ص 230] لندرك الفرق الكبير والبون الشاسع بين فهمهم للدين والنص الديني وفهم بعض أبناء عصرنا لهما. كان ذلك في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلا دي) عصر أبي العلاء وعصر الحسن بن رشيق الذي نشرنا له هنا من قبل قصيدا غزليا رائعا فيه خمسة تضمينات قرآنية. والفرق بين عصرهما وعصرنا هو أننا نجد اليوم بيننا من يدعو إلى إزالة شعر أبي نواس وقصص علي الدوعاجي من برامج التعليم عندنا! ومن يقيم القيامة على عنوان مسرحية مقتبس من القرآن الكريم ويتهم مخرجها بالكفر! وفي محيط فكري سلفي متطرف مثل هذا لا نستغرب أن تقوم القيامة أيضا وتتحرك آلة التجريم والعقاب ضد نص أدبي نرى أن لصاحبته الحق في أن تنشره لأنه لم يخرج عما عُرِف في تراثنا الأدبي والفكري من اقتباس من النص القرآنيّ وتقليد له واستيحاء منه. وحبّذا لو عّدل المتزمتون والمتطرفون الذين يدعون الدفاع عن الدين والمقدسات « ساعاتهم التاريخية » وتبينوا أنْ ليس لأحد منا أن يدّعيَ أن له سلطة دينية على الآخرين مهما يدّعِ لنفسه من السلطة، لأن الدين علاقة بين الخالق والعبد المؤمن وليس علاقة بين المواطن والمجتمع
الدكتورابراهيم بن مراد