جاء في مذكرات الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وفي سياق حديثه عن علاقات أمريكا بتركيا وعلاقاته هو بأوردغان أنه وفريقه كانوا يأملون منذ بداية انتخابه في بناء علاقات جديدة مع ما يسميه بجماعات أو أحزاب الإسلام السياسي المعتدلة والتي لا تتناقض تناقضا هيكليا مع القيم التي يقوم عليها النظام الديموقراطي والتي يمكن أن تكون بديلا لما يسميه بالأنظمة « الأوتوقراطية والتيوقراطية » القائمة في المنطقة العربية والإسلامية وأنه كان يأمل في التعاون مع مثل هذه الجماعات من أجل مقاومة الجماعات الإرهابية المتطرفة وإعادة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والخليج وخاصة في العراق. ويقول أنه كان يأمل أن تلعب تركيا التي يحكمها حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان هذا الدور في المنطقة مقابل مساعدتها على دعم وجودها ضمن حلف الناتو ومساندتها في سعيها إلى الانضمام إلى الاتحاد الأروبي وفي التصدّي لمشروع الانفصاليين الأكراد. وبرّر أوباما انتظاراته هذه بكون تركيا تتوفر على دستور يقر بعلمانية الدولة ويحول دون تحولها إلى نظام ديني رغم علاقات نظام أردوغان المتطورة مع جماعة الإخوان المسلمين ومساندتها لجماعات أخرى، فضلا عن كونها كانت بصدد تحقيق نجاحات اقتصادية تؤهلها لتكون عامل استقرار في المنطقة . وعلى هذا الأساس التقى بأردوغان وتحدث معه في هذا الاتجاه وعرض عليه ما تنتظره منه أمريكا وختم حديثه عن هذا اللقاء بقوله : وجدت الرجل وديّا ومستعدّا للاستجابة لما طلبناه منه ورغم ذلك خرجت بانطباع قوي هو أن الرجل لن يكون ديموقراطيا إلا بمقدار ما تضمنه له الديموقراطية من فرص البقاء في الحكم وما تدعم سلطته
Barack Obama: A promised land, Crown, New york,2020, ص352
إن أهم ما يظهر لنا من خلال هذه الشهادة هو التالي: إيصال ما سمي بجماعات الإسلام السياسي إلى السلطة كان خطة أمريكية وضعتها ونفّذتها حكومة باراك أوباما بدعوى التصدي للجماعات المتطرفة واستبعاد مخاطر الإسلام السياسي المتطرف عن المجال الأمريكي، إنّ هذه الجماعات كانت مستعدّة لتنفيذ ما يطلبه منها أولياء نعمة أوصلوها إلى السلطة، وأنها لا تؤمن حقا بالديموقراطية وإنما هي « ديموقراطية » بقدر ما يضمن لها هذا النظام الوصول إلى الحكم وتدعيم سلطتها
وليس هذا التشخيص مقصورا على علاقة هذه الجماعات بالولايات المتحدة الأمريكية بل ينسحب على علاقاتها بكل من تعتبرهم أولياء نعمتها وحلفاء لها في تدعيم موقعها في الحكم. ولذلك كان من القضايا التي يظهر من خلالها عجز أحزاب الإسلام السياسي عن أن يكون لها قدرة على التخطيط السياسي القائم على ثوابت خدمة المصالح الوطنية، ولا على التنفيذ الفعلي والإجرائي لتلك الخطة قضية السياسة الخارجية. فبعد انكشاف حقيقة الاستثمار الشعاراتي والخطابي في معاداة قوى الهيمنة التقليدية وفي التضامن مع القوى التحرريّة والثورية، تبّين أن هذه الأحزاب لا تقيم أي اعتبار لتلك الشعارات التي كسبت بها أصوات الناخبين ولا للمصالح الوطنية في علاقاتها الخارجية، وأن الاعتبارين الوحيدين المحدّدين هما الإيديولوجي والمصلحي الخاص بها. ولذلك ضحّت هذه الجماعات بالمصالح الوطنية لصالح القوى الخارجية التي تدعمها إيديولوجيا وسياسيا، كما ضحّت أحيانا بما يعتبر من الثوابت التي أجمع عليها الشعب وهو ما يظهر من خلال المثال التونسي في أكثر من مجال، في إبطال مشروع قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني على سبيل المثال وفي المسارعة بعقد مؤتمر « لأصدقاء » سوريا ساهم في فتح باب الجحيم على هذا البلد الشقيق، كما يظهر في فتح المجال واسعا أمام الاستثمار التركي في تونس على حساب المصالح الوطنية وفي تقديم الامتيازات التجارية لها جزاء مساندتها المعروفة للإخوان المسلمين ولأذرعهم في البلدان العربية ومنها تونس مما أدى إلى انخرام كبير في ميزان التبادل التجاري معها وإلى استنزاف كثير من القطاعات الإنتاجية من بينها على سبيل المثال قطاع النسيج وقطاعات صناعية أخرى بسبب فتح الأبواب على مصراعيها أمام الاستيراد بنوعيه المنظم والعشوائي من تركيا مع ما ترتب على ذلك من فقدان عدد كبير من مواطن الشغل. هذا فضلا عن الآثار التي خلفتها مساندة حزب حركة النهضة اللامشروطة لجماعة الإخوان المسلمين على علاقات تونس الخارجية مع عديد البلدان العربية ، وعن توريط تونس في مشاريع تدميرية إقليمية في كل من سوريا وليبيا بدوافع إيديولوجية خاصّة وما ترتّب على ذلك من آثار خطيرة من بينها خاصة تقوية شوكة الجماعات المتطرفة هناك وما جرّه هذا على الوضع الأمني التونسي الذي لم يسلم من إرهاب تلك الجماعات
أدت عوامل الفشل السياسية سواء منها ما يتعلق بالسياسة الداخلية أو بالسياسة الخارجية إلى فقدان فئات متزايدة من الشعب الثقة في قدرة المنظومة التي أتت بها الثورة على تحقيق ما كانت تتأمله منها. وبدل العمل على المعالجة العقلانية لهذا الوضع والمبادرة بإصلاحات تقوّي الجبهة داخليا وتستعيد ثقة الشعب في مؤسسات دولته وتمكّن تونس من استعادة موقعها خارجيا ومن تثبيت ما عرفت به سياستها الخارجية تاريخيا من التزام بالحياد إزاء الصراعات الإقليمية بين الأنظمة، بدل ذلك تعمقت الصراعات الداخلية بين الأحزاب والخلافات بين أجنحة السلطة واتسعت دائرة فقدان الثقة في مؤسسات الدولة مما أفقد تونس قيمتها الاعتبارية خارجيا وجعلها تواجه المنظمات والدول المانحة وهي في أدنى درجات الضعف وما نتائج الجولة الأخيرة من المفاوضات في هذا الشأن إلا التجسيد الأوضح لهذه النتائج
إن إدارة الدول سياسيا أمر على غاية من التعقيد يحتاج إلى كفاءات عالية وإلى تخطيط يستند إلى معارف علمية متنوعة ودقيقة وإلى ثوابت موضوعية لا تخضع إلى المتغيرات الحزبية، ولا يمكن أن يكون اعتباطيا ولا موجها بالمصالح المخصوصة للأحزاب الحاكمة، ولكن ما نتبينه من خلال أمثلة عديدة أن إدارة الشأن السياسي في البلدان التي حكمتها جماعات الإسلام السياسي خضعت لمصالح تلك الجماعات مما أدى إلى انهيار الثوابت وفقدان البوصلة الموجِّهة نحو خدمة المصالح الوطنية العليا
وإذا أضفنا إلى عوامل الفشل السياسي العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي لم تكن أقل كارثية ، وهي عوامل منها الموروث عن المنظومات السابقة ومنها المستجدّ بفعل انعدام التخطيط والبرامج المدروسة القادرة على إنتاج الثروة وعلى الاستجابة لتطلعات الشعب فهمنا بعض جوانب من الأزمة الشاملة التي تعيشها بلادنا والتي عاشتها وتعيشها بلدان أخرى وتبينّا طبيعة الحكومات التي تتحمل مسؤولية هذه الأزمة
بقلم زهية جويرو