ما كنت أحسبني أحيى إلى زمن تعيش فيه البشريّة مرّة أخرى وباء تفشّي الفيروس في الهواء. لقد نقلت لنا كتب التّاريخ و قصص الأقدمين و رواياتهم صورا بشعة من أوجاع البشريّة في بؤر الفقر و البؤس من العالم يتساقط النّاس فيها كالذّباب المرشوش و تتكوّم فيها البشريّة أكداسا على الأتربة، تتراكم الجثث بعضها فوق بعض و ترفع فيها أشباح الأموات بالجملة و تعبّأ في العربات يجرّها الآدميون أو تجرّها الحمير إلى الحفر الجماعيّة. لقد توهّمت البشريّة أنّ الوباء و الطّاعون و الأنقريّة مصائب بشريّة قد ولّت بدون رجعة و امّحت بامّحاء الفقر و التّخلّف و قيام المدنيّة و ازدهار البشريّة ازدهارا لا رجعة فيه. و لم تكن موتى الحروب لتخيف البشريّة كما كانت أخافتها موتى الأوبئة. فموتى الحروب ما هم ميّتون إلاّ بإرادة الإنسان و سخفه في بقاع جغرافيّة معيّنة و مهما كانت الفظاعة فيهم فإنّ النّاجي من موت الحرب متمتّع بالسلامة و الموتُ لا تعنيه و ليس يراها واقعة إلاّ على الآخرين، و لذلك لم تكن فظاعة الموت في الحرب بأفظع من فظاعة الموت بالوباء فموت الوباء كالنّار تأكل بعضها و تشعل نارها من نارها و تتسرّب إلى الإنسان من الباب الرئيسي الذي تنفذ منه الحياة إلى البدن ألا وهو الهواء الذّي لم نشعر بوجوده و لم نثمّن قيمته و لم نحمد الله على مجانيّته إلاّ عندما جاء الوباء فسمّمه و سدّ على الإنسان أنفاسه. و كم كنّا مفتخرين بسيطرتنا على الطّبيعة و بأنّ العالم أصبح قرية صغيرة بفضل تطوّر العلوم و الاتّصالات و ما درينا أنّ مصيبتنا في حضارتنا و أنّ الوباء سيقفز من المخابر و سيرقص على كلّ وسائل الاتّصال ليصيب العالم بأجمعه و البشريّة بأجمعها و الحمد لله أنّه لم يخرج علينا من أبواق التلفزات و الهواتف الجوّالة و الإنترنات و إن هو قد تسلّل إلى قصور السلاطين و لم يسلم منه الأثرياء، بل إنّ وقعه فيهم كان أشدّ و أكره عظماء البشريّة على الكمّامة تزيّن كالمخلاة طلعتهم البهيّة
ما كنت أحسب أنّ البشريّة بعد نهضتها البهيّة تعود إلى شكل من أشكال العجز و الحيوانيّة و تعود إليها نعرتها البدائيّة تتخاطف الدّول و العباد الكمّامات و الأدوات الوقائيّة و تتناطح من أجل الخبز و الذّخيرة، و كم من أمّ و جدّة تحسّرت هذه الأيّام على بيت « المُونة » و « عُولة » الصّيف لأيّام الشدّة في زمن لم تتربَّ الأجيال فيه على الشدّة حتّى عرفت: الكورونا
الدكتور الهادي جطلاوي