في « قضاء نور الدين البحيري » وتجاوزاته

يتابع التونسيّون هذه الأيام أخبارًا صادمة كثيرة آخرُها قضية أستاذة الفلسفة وحماقةُ زميلها « الأستاذ » معها في حصة حراسة امتحان الباكالوريا، وتهديدُ نور الدين البحيري بصعود جماعته إلى الجبال لمواصلة ما سماه « النضال »، وهو نضال من أجل البقاء في السلطة إن لم نقل من أجل افتكاك السلطة كما فعل إخوانهم جماعة فجر ليبيا في طرابلس، أي إما أن تَحكم الجماعة وتتحكّم في التونسيين على هواها حسب فهمها هي لما تسميه « التوافق » – وإما أن تدفع التونسيين إلى حرب أهلية قد هدد بها قادة الجماعة أكثر من مرة. ولكن الصادم أكثر في نظري هو الحكمُ القضائي الصادر ضد صاحبة « سورة الكورونا » آمنة الشرقي، وليس هو في الحقيقة أولَ حكم قضائي صادم يصدر في ظل ما يسميه أهل المهنة أنفسُهم « قضاء نور الدين البحيري »، ففي الجعبة أحكام أخرى صادمة منها الحكم بعدم سماع الدعوى في قضية اغتيال لطفي نقض، والحكم بثلاث عشرة سجنا على مجموعة من التلاميذ هاجموا مقر حزب النهضة في إحدى المدن التونسية. وقد كنت كتبتُ من قبل عن هذه القضية وبيّنت أن ما وُجّه إلى السيدة الشرقي من التهم لا أساس له لأن مقدّم الشكوى بها لا يفهم من الكتابة الأدبيّة ومن الابتكار الأدبي شيئا بل هو مهووس دينيا يرى التهجّم على « المقدسات » في كل ما يخالف فكره القاصِر الذي لا يتجاوز الثقافة المأخوذة من كتب الفتاوى التي تحلل للإنسان ما توجبُ عليه أن يفعله وتحرم عليه ما توجبُ عليه أن يتجنبه، وهي كتب صفراءُ مليئة باجتهاداتِ فقهاءَ عاشوا في عصور مختلفة عن هذا العصر. وكنا نود أن يحقّقَ في القضية مَنْ له ِمن سَعة الفكر وعمق الثقافة والدراية بضروب التعبير الأدبي والأساليب الفنية ما يجعله ينظر إلى المسألة نظرة موضوعية لا تخرج غن تقييم تجارب الكتاب والأدباء والشعراء القدامى والمعاصرين سواء في تقليد النص القرآني أو في الاستيحاء منه والاقتباس من معانيه ومن آياته ، إضافة إلى إيمانه بحرية التفكير والتعبير عملا بما يقره دستور البلاد

ولكن شيئا من ذلك لم يحدث ورأينا الحكم الصادم الذي صدر ضد نص أدبي قصير فيه استيحاء من النص القرآني. وهذا الموقف الُمدينُ للنص يثير في نظري قضية مهمة جدا هي الثقافة العامّة التي تكون للقاضي ، إذ لا تكفيه معرفة نصوص فقه القضاء التي تعلمها أو حفظها في الجامعة أو قرأها في كتب الاختصاص ليكون قاضيا عادلاً ناجحا بل لا بد له من آفاق ثقافية وفكرية وأدبية واسعة تمكنه من فهم النصوص فهما يخرجه من دائرة محتوى النص الضيقة إلى دائرة أوسع تقوم على التحليل والتأويل والتعليل والمقارنة

وأود أن أذكِّرَ هنا بالحكم في قضية مهمّة جدا من القضايا التي شغلت المجتمع المصري والعربي عامة سنة 1926 هي محاكمة الأديب طه طه حسين على كتابه « في الشعر الجاهلي »، والمحاكمة منشورة في كتاب ومن المفيد جدا الاطلاع على أطوارها. فقد اعتمد طه حسين في بحثه « الشك المنهجيّ » في دراسة ما له علاقة بالشعر الجاهلي من القصص القرآني والأخبار المفسرة له والآيات القرآنية الداعمة لتلك القصص وسمح لنفسه بالشك في صحة الكثير منها، وأقام بذلك على نفسه قيامة المحافظين من طلبة الأزهر وشيوخه بل ومن الأدباء فهوجم وألفت في مناقشته وتكذيبه الكتب وقدمت به قضايا إلى النيابة العامة المصريّة، وقد تولى التحقيق في القضية رئيس النيابة العامة واسمه محمد نور، ولم يكتف النائب العام بالبحث عما يُدِين طه حسين في كتابه بل حاول التعمق في منطلقاته العلمية والمنهجية ليفهم فهما جيدا مرامي الباحث وغاياته ويتبين هل فيها تعمد للإساءة إلى الدين والنص القرآني أم لا، ويدل التقرير الذي أعده حول أطوار التحقيق أنه قرأ الكتاب قراءة الناقد العالم المحلل المؤوّل المعلل المناقش لأفكار المؤلف مناقشة قائمة على المراجع والمصادر التي اعتمدها المؤلف نفسه، وقد انتهت المحاكمة بالنتيجة التالية : « وحيث أنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين بل إن العبارات الماسّة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها على سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها ؛ وحيث أنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر، فلذلك تُحْفَظُ الأوراق إداريا »، وقد صدر هذا الحكم في 30 مارس من سنة 1927، أي قبل تكوين جماعة الإخوان المسلمين بسنة. ونعتقد أن القصد الجنائي في نص السيدة الشرقي غير متوفّر أيضا

الدكتور ابراهيم بن مراد