في سبيل ثقافة التقدم

مثّل مفهوم التقدم أحد المفاهيم الأكثر دورانا في الفكر التونسي والعربي عامة في العصر الحديث. فقد استخدم رواد الإصلاح هذا المفهوم في أكثر من سياق، في سياق حديثهم عن التقدم الغربي الذي صنع الفارق الحضاري بين تقدم الغرب وتأخر العرب ودفع أولئك الروّاد إلى التساؤل عن أسباب ذلك الفارق، واستخدموه في سياق حديثهم عن أهمّ مطالب المشروع الإصلاحي وغاياته وهو تحقيق التقدّم الحضاري العام المنشود. وبما أننا في تونس نطمح حاليا إلى أن تكون لنا سياسة ثقافية واضحة وثابتة وإلى جعل الثقافة رافدا من روافد الإصلاح والتنمية والتقدم فإننا نحتاج حقا إلى أن نكون على دراية بأمرين أساسيّين أولهما الاحتياجات الثقافية لبلادنا في سياقها الراهن وثانيهما الموقع الذي صارت تحتله الثقافة والصناعات الثقافية في التنمية 

لقد ظل الخط الناظم للثقافة التونسية منذ ما يناهز القرن ونصف القرن هو خطّ يتأسّس على مفهوم التقدم. والتقدم حركة لا تتوقف من جهة لأن الوقوف يقود ضرورة إلى التخلف، وهي حركة متجهة دائما نحو المستقبل، فضلا عن ذلك يفيد مفهوم التقدم الاستئناف، والاستئناف لا يحتمل القطيعة، وهو ما يجعل التقدم المنشود مشروعا يستأنف عناصر التقدم التي وجدت في الماضي وتلك القائمة في الحاضر من أجل صناعة عوامل تقدّم متجدّدة للمستقبل. وما كان استخدام الرواد لهذا المصطلح إلا لكون أكثرهم كان على دراية بأن القطيعة المعرفية الصارمة غير قابلة للتحقق في المجال الثقافي إلا في دوائر محدودة جدا، إذ يكفي أن نأخذ بعين الاعتبار أن الحامل الرئيسي لهذه الثقافة هو اللغة وأن اللغة مقوم رئيسي من المقومات التي تحدّد أنظمة التفكير, لذلك فإن التقدم بقدر ما ينفر من الاستغراق في الماضي والسكنى فيه لأن ذلك نقض تام للتقدم ينفر كذلك من القطع التام معه لأنه يحرمه من كل العناصر التي يستمد منها القوّة الضرورية وطاقة الانطلاق نحو المستقبل. ولقد طرأ على هذا المسار الذي يحركه مطلب التقدم والذي كان قاسما مشتركا بين مختلف التيارات التي عرفتها الثقافة التونسية وإن تنوعت الرؤى والتصورات حول مضمون هذا التقدم المنشود وحول مرتكزاته ، تيار يناهض تماما هذا المشروع لأنه تيار مشدود إلى ماض يرى فيه الحل لمشاكل الحاضر عملا بالقول المأثور « لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها » وقد مثل هذا الصوت نشازا ومثلت الفترة التي ارتفع خلالها نشازا أيضا في تاريخ تونس المعاصر أحدث شيئا من الاضطراب في التوجهات العامة التي سار عليها التعليم من خلال خلق « تعليم » آخر مواز يروج للمشروع الإيديولوجي الذي يتبناه، ومن خلال استغلال جملة من الحوامل الثقافية كالقنوات التلفزية والإذاعية من أجل نشر ثقافة دينية تتعارض مع التوجه العام الغالب على الثقافة الدينية بتونس والقائم هو أيضا على مفهوم التقدم. على هذا الأساس نعتبر أن المشروع الثقافي التونسي إذا أراد أن يكون منخرطا في التوجه العام الذي يحكم وعي أغلب التونسيين اليوم والذي يصنع مواطنا منسجما مع كل الروافد الثقافية التي ابتنت ثقافته على مر العصور ومتصالحا مع عصره وقادرا على أن يضيف إليه ما به يصنع التقدم فإن عليه أن يعمل أولا على ضمان الاستفادة القصوى من شبكات المؤسسات الثقافية القائمة صوريا اليوم والتي فقدت ما كان لها من ألق وما كانت تتمتّع به من فعالية في تأطير مختلف الأجيال في فترة سبقت، عليها أن ترفد المكتبات العمومية بالمؤلفات التي تشيع فكر التقدم والتي تعالج القضايا المهمة بالنسبة إلى الفئات التي ترتاد هذه الفضاءات وتشد اهتمامها، بل إن على الذين يعملون في هذه الفضاءات ألا يقتصر دورهم على الجلوس في انتظار أن يأتي أحدهم ليجلس ويطلب كتابا، عليهم أن يعملوا على ابتكار الأنشطة والتظاهرات التي تساهم في جعل القراءة نشاطا يوميا من أنشطة التونسي، على هذه الفضاءات أن تعقد الصلة بالمؤسسات التعليمية حتى يتشاركا في وضع البرامج التي تساهم في استقطاب التلاميذ وفي تأطيرهم خلال ساعات الفراغ بدل تركهم فريسة لشارع مأزوم محكوم بالعنف والتطرف والجريمة ، على وزارة الثقافة أن تضع برنامجا لتفعيل دور الثقافة وهي شبكة موزعة على كل جهات بلادنا، فلماذا لا تذهب الأموال إلى دعمها ودعم برامجها من أجل تأطير ثقافي فعال ومبتكر لفئات في حاجة ماسة إلى هذا التأطير. إنّ أول قاعدة على السياسة الثقافية أن تأخذ بها وتنطلق منها هي استعادة التونسي إلى المؤسسة الثقافية وإلى ثقافة التقدم والتنوير والإبداع، بل افتكاكه من الفراغ الفكري وما يترتب عليه من فراغ قيمي، ومن الدمغجة العنيفة المتطرفة التي تعرض ومازال يتعرض لها في مؤسسات أخرى يبدو أننا لا نعير انتباها كافيا لما يدور فيها إلا لما تصدمنا مشاهد الإرهاب أو أخبار « الفضائح »، علينا أن نوجد البرامج والإطارات ذات الكفاءة القادرة على إعادة تلك المؤسسات إلى دورها الأصلي حتى تستعيد هذه إليها الأطفال والشباب وتقوم بدورها في تأطيرهم وتنمية مواهبهم وتثقيف عقولهم وغرس القيم السامية فيهم وإلا سيظل هؤلاء ضحايا الفراغ الفكري والقيمي الحامل على الانصراف إلى أصناف الإدمان الذي يدمر الأوطان

أما الهدف الثاني الأساسي الذي أرى من الضروري أن تنطلق منه السياسة الثقافية التونسية فهو أخذ حقيقة تحول الثقافة إلى صناعات داعمة للتنمية وللتشغيل بعين الاعتبار وأن حقل الصناعات الثقافية قد أصبح في كل العالم اليوم أحد حقول الاستثمار الوافرة المردودية والأعلى قيمة مضافة ، هذا إضافة إلى أن مردوديتها لا تقف على ما هو مادي بل إن مردوديتها الرمزية أعلى قيمة، إذ يكفي أن نتأمل في مردودية الصناعة السينيمائية الأمريكية على سبيل المثال سواء ماديا أو رمزيا لنتبين قيمة هذه الصناعات. إنها توجه المتقبلين إلى ثقافتك وإلى بلدك وتراثك وصناعاتك وإلى لغتك وما تحمله من رؤى وتصورات وتساهم في نشر توجهاتك ووجهة نظر بلادك ومثقفيها وفنانيها إلى القضايا التي تهم الإنسان عامة. وكذلك الشأن بالنسبة إلى الكتاب وإلى المسرح وسائر الفنون والصناعات الفنية. ولذلك على السياسة الثقافية التونسية أن تكون سياسة استثمارية قائمة على دراسات مختصة وعلى برامج ذات أهداف محددة وتملك مسبقا آليات تنفيذها. نعرف جميعا أن وزارة الثقافة تخصص نسبة هامة من ميزانيتها لدعم المبدعين والكتاب والمثقفين، ولكن هل تملك رؤية استراتيجية واضح لكيفية توزيع أموال الدعم؟ هل لها معايير موضوعية تقدم على أساسها أموال الدعم؟ هل تأخذ بعين الاعتبار البعد الاستثماري الضروري لهذا المال الذي تقدمه ومن ثمة هل تتم متابعة وتقييس المردودية المادية والرمزية لذلك المال؟

من المعلوم أن الهياكل المنظمة للعمل الثقافي ليست هي منتج المضمون الثقافي والفكري والفني وإنما منتجه يظل المثقف والمفكر والمبدع والفنان ولكن هذه الهياكل هي أيضا طرف منتج للثقافة لأنها هي التي تمول إنتاجها إن كليا أو جزئيا وعليها أن تقطع مع نهج تقديم الدعم دون رؤية ثقافية استراتيجية منخرطة في برنامج التقدم، وفي خدمة الهدف الأساسي الراهن وهو استعادة التونسي إلى ثقافة التقدم وإلى القيم الثقافية العليا، كما أن عليها أن تتوقف عن « دعم » عقلية التواكل وأخلاقية « رزق البيليك » التي خلقها على مدى عقود النهج المعتمد في تقديم الدعم للعمل الثقافي

بقلم زهية جويرو