في بيته يُؤتى القلم: قراءة في زيارة رئيس حركة النهضة للأستاذ هشام جعيّط

صورة من ركن غرفة، يظهر منها شخصان تجاوزا الثمانين عمرا، الأستاذ هشام جعيّط العالم المؤرّخ المفكّر وقد ظهر شيبه المعرفيّ وقارا يشير إليه ويدلّ عليه، والسيّد راشد الغنّوشي رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة الإخوانية وقد بدا شيبه سياسيّا ذا رسائل مفتوحة التأويل. لقاء بين عالم وسياسيّ بمحمولات تاريخيّة، ودلالات سياسيّة عبر التاريخ البشريّ تجسّد صراعا بين سلطتين، سلطة القلم، وسلطة السيف

يزور السياسيّ العالِم في بيته للاطمئنان على صحّته لمرض ألمّ به، يغيب في ظاهر الصورة الصراع بين عالِم مريض طريح الفراش، وسياسيّ يزوره في اطمئنان الراعي على رعيّته وإن من العلماء، هكذا حدّث لاوعي السياسيّ

غرفة بدت أشياؤها المنزلية بسيطة، وألوانها باهتة هادئة، تناسب هدوء العالِم ورصانته، يقطع هدوءَها لونُ كسوة الزائر الأزرقُ في إشارة إلى لونه السياسيّ الذي حمله معه وهو يزور عالِما طريح الفراش، يدعم هذا القطعَ لونُ ربطة العنق الأحمر القاني حتّى بدت الغرفة منقسمة إلى قسمين، قسم غربيّ هادئ رصين، وقسم شرقيّ بألوان ساطعة مشعّة لا يتخلّى فيها السياسيّ عن صفته الرسميّة ولونه السياسيّ، ويؤسّس به حضورا ذا أضواء قد لا تلائم المناسبة

عالِم ممدّد على فراش، أعضاؤه اليمنى في صعود، يُعلي ركبته اليمنى، ويضع يده اليمنى على رأسه وقد عقدها عدا السبابة التي تشير إلى الزائر في لطف إشارة قد تكون من صنع اللاوعي، وأعضاؤه اليسرى في انبساط وخفوت، يده المنبسطة تحت الغطاء، وساقه الممتدّة في غير مجاراة لليمنى. الأعضاء اليمنى في صعود تلقى هوى والزائر من اليمين، الحزب الحائز على الأغلبية في البرلمان، ما قصد العالِم هذه الوضعيّة بدلالتها المذكورة، ولكنّها الأشياء على عواهنها قد يقع بها الحافر على الحافر من غير جنسه

كان العالم نصف متّكئ، تسند ظهره مخدّتان تجعله شبه قاعد، وتجنّبه صفة المريض طريح الفراش، وتقيم الدليل على هيبة العلم وشموخه، في حين بدا السياسي جالسا في انقباض، ركبتاه قريبتان من بعضهما، وظهره منحن، ورأسه إلى أسفل يتأمّل كتابا بين يديه، بين انبساط العالم رغم العلّة الصحّيّة، وانقباض السياسيّ رغم أنّه الزائر المعافى قصّة انقلاب الأدوار يرويها تاريخ توتّر السياسيّ الدائم أمام العالم المفكّر

يكاد وجه السياسيّ لا يظهر أثر الكمامة والنظارات، لا يظهر من أعضاء حواسّه إلا أذن صحبها السياسيّ ليسمع بها أنين عالم مريض، فإذا هي محمرّة أثر حياء لما سمعته من وقار العلم وهيبة المعرفة، ويبدو العالِم عاري الوجه مكشوفه، يواجه مصيره جهرا، لا يخشى من فيروس السياسيّ لمناعة العلم وحصانته، ولأنّه يعرف جيّدا حرص السياسيّ على حياته، فلا ريب أنّه ملقّح معقّم مطعّم

يجلس السياسي صاغرا، عيناه إلى أسفل في حضور هيبة عالم ووقار مفكّر، لا نرى في الصورة ظهر كرسيّ أو أريكة يسند إليه السياسيّ ظهره، فيكفيه توسيع الحزام بالبرلمان، لذلك جلس مكرها منحنيا وهو يتصفّح كتابا، فلا أريكة يستلقي بين أحضانها لتحفظ ماء وجهه السياسيّ

يمسك السياسيّ بكتاب للعالم المفكّر هشام جعيّط بكلتا يديه، « يأخذه بضعف » مكتفيا بتأمّل غلافه، وينظر في عنوانه المثقل تفكيرا وتاريخا وديانة

« Penser l’Histoire, penser la Religion »

 كان يمسك بالكتاب بكلتا يديه، يكاد يغطّي أعلى يده اليسرى عنوان الكتاب، بل يقطع الإبهام هذا العنوان في اثنين، يقطع التاريخ والدين إلى قسمين، وهو تقسيم نجد له صدى في الحياة السياسيّة في تونس، قصدنا تقسيم تاريخ تونس إلى مرحلة العمالة للاستعمار ومناضلين ثوريين متديّنين، وتقسيم المجتمع إلى فئة متديّنة تخاف الله ورسوله، وفئت علمانيّة كافرة

لا شك أن السياسيّ وهو يتأمّل العنوان قد احتار في التفكير، ما الحاجة إلى التفكير والدين نقليّ، وما الحاجة إلى التاريخ والتاريخ المنشود هو تاريخ المستقبل، « تاريخ » ما بعد هذه الحياة الدنيا؟ ليس له أن يفكّر في التاريخ، بل ليس له أن يفكّر في الدين، لو فكّر في الدين ما كان رئيس حزب ورئيس البرلمان

تتدلدل من معصم السياسيّ ساعة فاخرة بلون فضّيّ، علق بمثيلاتها في الحياة السياسيّة موروث سلبيّ، وانضاف إليها في هذه الصورة إفراغها من أبّهتها، فهي مجاورة لكلمة التاريخ في عنوان الكتاب، فليس زمان هذه الساعة إلا أداة في فكر المؤرّخ يكشف أحداثها ويعرّي أخبارها

ويبدو العالِم مطرِقا مفكّرا وهو على فراش المرض، سارحا في ملكوته المعرفيّ، فاغرا فاه أثر ما يحدث حواليه، يُشيح وجهه عن السياسيّ، يكاد ينظر إلى نفسه يلومها على أمر لا نعرفه، ويظهر السياسيّ متأمّلا في الكتاب يتّخذ لنفسه موقعا معرفيّا مؤقّتا، يعلم جيّدا أنّه لا يملكه. لا خطاب في الصورة، فحتى الرجلان ليسا في مقابلة وجها لوجه، فالسياسي مجانب في جلوسه للعالِم، حذر منه وإن جاء يزوره. لغة الصمت سائدة في الغرفة، ومعنى اللامعنى تعبّر عنه لوحة جداريّة مجرّدة جوار العالِم، تطلّ عليه من عَلُ في تفاعل قديم بينهما، ولغة الكتاب مسيطرة في المشهد، تتحكّم في السياسيّ المتأمّل في هذا الكتاب، وتعود به إلى المربّع الأصليّ، مربّع المعرفة التي تعبّر عنها لغة التاريخ التي تُصمت كلّ من أراد تشويه حركة التاريخ

عُكّازة (عصا) متّكئة على المخدّة، لا مآرب للعالم فيها غير مساعدته على المشي، بنّيّة قريبة من لون المخدة، فكلتاهما يستند إليها السياسيّ ليصير اللون البنّيّ في الصورة رمز الاستناد والاتّكاء، هذا اللون البنيّ الخافت صار معبّرا عن عيش عالِم في فضاء ألوان هادئة بعيدة عن الألوان المشعّة الجاهرة التي يعيش بها السياسيّ وفيها

لم يخف العالِم عكّازته عن العدسة حتى لا تُري علّته، فالعالِم المؤرخ خبر الحياة والبشر والحجر، وعرف أطوار البشرية والمجتمعات والدول، وتأكّد أنّ عكّازته تمثّل مرحلة ما في حياة كلّ هذه الظواهر، فهي « كالمستعدّ إلى الرحيل لا ينقضي عنه االرحيل »، لذلك يظهرها في قمة العفوية والثقة بالنفس

ويظهر من وجه العالم يساره وهو اليساريّ (بالمفهوم العام) في وقع الحافر على الحافر، ويبدو من وجه السياسيّ يساره أيضا وهو اليميني في عدم مطابقة بين الصورة وجوهرها وانفلات الشكل عن فكره، تسيح الأوجه، فلا ينظر العالِم إلى العدسة ملتقطة الصورة، قد تكون الصورة في غفلة منه، وقد يكون أهمل النظر لمعرفته أنّ الصورة استثمار سياسيّ لا يأبه به

وإذا استحضرنا ما في السرديّات السياسيّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة من تهم تلحق العالِم الذي يكون على باب السياسيّ، وذكّرنا هنا بأنّ السياسيّ هو الذي كان على باب العالِم، بل في بيته، فــ »في بيته يؤتى القلم »، فهل يجوز أن نلحق التهم نفسها بالسياسيّ وهو ببيت العالم؟

توفيق العلوي
كلّية الآداب والفنون والإنسانيّات بمنوبة