كثيرا ما تطالعني مواقف من النخبة التونسية تحقّر من شأنها وترميها بشتى التهم ومنها بالخصوص تهمة المسؤولية الكاملة عما بلغته أوضاع البلاد من تدهور في مختلف المستويات. وأوّل ما يلفت الانتباه في هذه المواقف أنها انفعالية وقطعية وتعميمية ولا تستند إلى مفاهيم موضوعية ولا إلى معطيات دقيقة
فمن حيث المفهوم يستعمل كثيرون ومن مشارب مختلف مصطلح النخبة ولكن قلّة قليلة من الذين يستعملونه يعرفون على من يحيل هذا المصطلح ومن يسمّي تدقيقا. يستعمل المصطلح عند الحديث عن السياسة وعن الإدارة بمجمل مؤسساتها وعن الفكر والثقافة والفنون، وعند التقييم يوضع الجميع في سلّة واحدة ويسوّى بينهم في انعدام الكفاءة وفي الضحالة والفشل في تحقيق ما تنتظر منهم المجموعة تحقيقه، مثلما يسوّى بينهم في المسؤوليّة إزاء الأزمة العامّة عبر الترديد اللامفكّر فيه تارة والمقصود غالبا لعبارة « نكبتنا في نخبتنا » وهي تسوية يراد منها التعويم وتخفيف وطأة المسؤولية وتبعاتها عن المسؤولين الفعليّين والحقيقيّين عما آل إليه حال البلاد
فهل تعقل التسوية بين النخبة السياسية التي تنفرد بسلطة القرار والتنفيذ والنخبة الفكرية والعلمية التي تعمل بصمت وهي مجردة تماما من هذه السلطة ومهمشة ومقصاة عن دائرة القرار؟ وهل من العدل التسوية بين نخبة سياسية لم تبرهن طيلة عشر سنوات إلا عن ضحالة في إدارة الشأن العام ولم تقم الدليل إلا على انعدام الكفاءة في وضع الاستراتيجيات المناسبة لتحقيق مطالب الشعب ولإنقاذ البلاد من الفقر والبطالة والإفلاس ونخبة من الإداريين الذين استطاعوا المحافظة على الإدارة التونسية والإبقاء على مؤسساتها وضمان استمرارية أدائها لمهامها بالرغم من كل الصعوبات؟ هل من العدالة التسوية بين من يقدمون لنا يوميا في البرلمان التونسي عروضا في الضحالة وانعدام الكفاءة وتدني المستوى الفكري وشباب تونس من المهندسين والأطباء والباحثين في كل الاختصاصات العلمية الدقيقة وممن يحتلون مواقع رفيعة في أكثر المؤسسات العالمية تطورا ومن يحققون تفوقا مشهودا في أرقى الجامعات العالمية ؟
هل يعرف التونسيون أمين المراكشي الطالب الذي حصل منذ سنتين في أرقى المدارس الفرنسية العليا على شهادة الدكتورا في الرياضيات الأساسية بعد أن قدم أطروحة تعد من أفضل الأطروحات عالميا في مجال اختصاصها ؟ هل يعرفون دجلة النفاتي التي حصلت هذه السنة على جائزة أفضل أطروحة دكتورا في الهندسة الميكانيكية من جامعة هيوستن بالولايات المتحدة الأمريكية ؟ هل يعرفون مئات المهندسين التونسيين الذين يشتغلون في كل الاختصاصات الهندسية في أرقى المؤسسات مثل وكالة نازا الأميريكية وشركة ميكروسوفت ومخابر الفيزياء النووية ؟ هل يعلمون أن زبدة الطلاب التونسيين الذين يواصلون دراساتهم بالجامعات الأجنبية كل عام لا يعود منهم إلى تونس إلا قلة قليلة بسبب لامبالاة ساستها ؟ هل يندرج أيضا الآلاف من الأطباء والمهندسين والباحثين من ذوي الكفاءات العالية وممن يحققون سنويا إضافات لا تقدر بثمن لفائدة المؤسسات التي يشتغلون بها ضمن « نخبتنا المسؤولة عن نكبتنا » ؟
في تونس مئات من الجامعيين الذي ينتجون في كل الاختصاصات أفضل ما ينتج عربيا من بحوث ودراسات رغم ما يعانونه من تهميش ورغم محدودية إمكانيات البحث العلمي ورغم أن راتب الجامعي التونسي أقل راتب يحصل عليه جامعي في العالم . لا يذهبن في ظنكم أن ترتيب الجامعات التونسية عالميا راجع إلى مستوى ما ينتجه الجامعيون من بحوث ودراسات بل هو راجع إلى قلة الإمكانيات وإلى بدائية وسائل العمل ممّا لا يسمح بأن تكون أعمال الجامعيين مرئية وبالرغم من ذلك يلقى هؤلاء كل الإغراءات المادية وكل إمكانيات البحث التقنية والعلمية والتمويلية والمناخ المعرفي والثقافي المناسب في أرقى الجامعات مما يغريهم بالهجرة وترك الجامعة التونسية
فهل يلقي السياسي التونسي بالا لما يقوله الجامعي ؟ هل من ساستنا من هو مطلع على ما تنتجه الجامعة من بحوث ودراسات ؟ هل منهم من قرأ شيئا لعبد الوهاب بوحديبة أو المنصف وناس أو عبد القادر الزغل أو عبد المجيد الشرفي أو هشام جعيط أو …والقائمة تطول؟ هل يوجد منهم من يعتبر الجامعة مراكز لإنتاج الأفكار والبرامج التي يجب أن تبنى عليها سياسة البلاد وإدارة شؤونها العامة ورسم سياساتها وخططها واستراتيجياتها مثلما هو معمول به في البلدان التي يحترم ساستها عقول مواطنيها وإبداعاتهم وما ينتجونه من معارف وخبرات ؟
إذا كانت النخبة التي تتولى سياسة البلاد هي المعيار فلا يصحّ إذن أن يكون أحد من كفاءات تونس ضمن النخبة وعندها فعلا تكون نكبتنا في نخبتنا
بقلم زهية جويرو
الصورة العليا / دجلة النفاتي المتخرجة من جامعة هيوستن بالولايات المتحدة الأمريكية