في العلاقة بين الشعبويّة والإسلامويّة

أيها القارئ الكريم، أنت وأنا عضوان في الشعب ولكن الشعب الذي يتكون من مجموعنا لا يوجدُ إلا في اللّغة. فالشعبُ كيان رمزي، هو مجموعة أعضاء تجمعهم ثقافة مشتركة لا يفهمها غيرهم. فنحنُ التونسيون لنا طقوس وعادات ومشاعر تتعلق بالأعياد وبالمناسبات الوطنية والعلاقات الاجتماعية لا يدركها غيرنا لأنها تمثل رصيدنا المشترك بيننا. تلك اللغة التي نشترك فيها قد لا تكون مكتوبة بل نتوارثها عن آبائنا وأمهاتنا كما نرث عنهم المال أو النسبَ. إنّ ثقافة شعب ما تمثل بالنسبة إلى كل فرد من ذلك الشعب المتخيل رصيدا من التجارب المشتركة. فماذا يحدث حين نضع كل تلك التجارب والمشاعر والرموز التي تمثل ميراثا جماعيّا بين يدي فرد واحد نفوض إليه سلطة التصرف في ما توارثنا عن آبائنا؟ هل يمكن فعلا أن نستأمن عضوا واحدا على ما يسمى « إرادة شعب »؟ ولنفترض أن هذا العضو من مجموعتنا يمثل أكثرنا صدقا وإخلاصا وأمانة فهل يعقل أن نضع بين يديه كل التراث الذي يجمع أفرادا عديدين ليكون الناطق باسمهم أي اسم إرادتهم؟

إنّ احتكار سلطة الحديث باسم كياننا الجماعي المتخيّل يعتبر تطابقا مع « الحاكمية » التي يستند إليها المتحدثون باسم الإسلام السياسي. فتيارات الإسلامويّة تستمد شرعيتها من تمثيلها لإرادة عليا هي إرادة الله وأما الحكم باسم الشعب فإنه يستمد شرعيته من إرادة عليا كذلك هي إرادة هذا الكيان الكبير الذي يجمع أفرادا ولكنه لا يوجد في أرض الواقع. ففي أرض الواقع يوجد أناس متفرقون، يوجد أنا وأنت وهو وهي ويتحول هؤلاء إلى جمع: « نحنُ » ولا وجود ل »نحن » في أرض الواقع بل هذا الكيان الجماعي يعيشُ في اللغة وفي العادات وفي الأفكار ونسميّه : شعبا

وهذا الشعب المجموع من أفراد لا يمكن أن يكون لهم نفس الذائقة ولا نفس الرغبات أو المشاعر رغم ما يجمع بينهم من عادات ومن طقوس ومن وجدان مشترك، فكل فرد يحمل داخله عالمه الخاصّ وله تاريخه الخاص وأحلامه وآلامه وكما يقول المثل « ماحك ظفرك مثل جلدك » فمن يشعر بما تشعر به حين تتألم؟ ومن يغتبط كما تغتبطُ؟ لا أحد يمكنه أن يشعر بالآخر كأنه هو تماما لذلك فنحن مختلفون ونعيش منفصلين بفرديتنا التي نحاول في اللغة والعادات تجاوزها لنتواصل معا ولنعيش معا ولنتبادل مشاعرنا ونخفف عن بعضنا ونتعاون ونتشارك ونبني هذه العشرة والعلاقات الاجتماعية

لكن الثقافة التي نحملها تميل إلى اعتبارنا جماعة متماهية بلا فرادة ولا اختلاف ولنا هوية واحدة جماعية تمثل الكيان الكبير: إنها المرجعية الدينية واللغوية وهي في الأصل تتطور بتطور الزمن ولكن الجماعات السياسية التي تتحدث باسم الدين جعلت تلك المرجعية راكدة وتلاعبت بها سياسيا ومنعت انتشار أفكار مناسبة جديدة تجعل فهمنا للدين أكثر تناسبا مع عصرنا الحالي وهو الأمر الذي يجعل هذه الشعبوية التي تنتشر في البلاد شكلا آخر من أشكال الإسلامويّة.
لقد نشطت الحركات الدعوية طيلة نهاية القرن العشرين وخاصة في العشرية الأخيرة على نشر قيم توظيف مشاعرنا الدينية العفوية سياسيا وغابت إرادة سياسية حقيقية لاستئناف تحديث البرامج والعلوم وتراجعت التربية واستفحلت في السنتين الأخيرتين الأمور بسبب الوباء وانقطاع التعليم وتزايد التسرب المدرسي وانتشرت الخرافة في أوساط الناس تغذيها الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وقصور الدولة والقلق العامّ. وصار الناس أميل للتعلم مما ينتشر في وسائط التواصل الاجتماعي التي تعتمد على التلاعب بعقولهم ومشاعرهم وتعطل عمل الملكة النقدية فتقاطعت سلعنة الإنسان بمحاولات تغييب عقله النقدي واستلابه في هذه التيارات

وبذلك فإنّ الشعبوية في الفضاءات العربية الإسلامية لا يمكن إلا أن تكون إسلاموية جديدة أي نكوصا وعودة لبداية تيار جديد لنفس الثقافة التي تقوم على الخوف والجهل وتنغلق على نفسها لتلتهم نفسها بنفسها بسبب كون « الشعب » في ذهننا الجماعي لم يستبدل ثقافته القديمة الآتية من عالم ما قبل اكتشاف الجاذبية ودوران الأرض بثقافة جديدة تناسب التطور التكنولوجي والرقمي والعلم الحديث. فإذا كانت الشعبوية في الغرب انفلاتا وسيلانا للسلطة وشكلا من أشكال الاستبداد ويمكن لمؤسسات الدولة الحديثة هناك وضع حد لها فإنها في بلداننا كلّ تلك الآفات وزد عليها أيها القارئ الكريم مخاطر الإسلامويّة المقنّعة بمعجم جديد

بقلم زينب التوجاني