في البيان الأخير للنهضة عودة التباكي والمظلومية تعكس إفلاس القيادة

خلافا لعديد القوى السياسية الأخرى، حافظت حركة النهضة الإخوانية على استمرار عمل هياكلها وانتظام اجتماعاتها الدورية للبتّ في مستجدّات الأوضاع الراهنة رغم انحسار الشعبية ورغم الارتباك وقفز لفيف لا يستهان به من «القادة» من مركب التنظيم بعد أن ضاقوا ذرعا بنزوع «الشيخ» المؤسس إلى الاستبداد بالرأي ورفض قبول التقييم النقدي والذهاب في الإصلاح الذي لا مناص منه خصوصا بعد التطورات الأخيرة في مشهد الحكم ببلادنا وتغيّر المواقع وترسّخ أمر واقع جديد

في هذا الإطار، وعلى غرار الأسابيع الماضية، اجتمع المكتب التنفيذي للنهضة مساء الأربعاء 24 نوفمبر 2021 برئاسة راشد الغنوشي، واصدر بيانا الجمعة كشف أن الجماعة نظرت في برنامج التواصل مع الهياكل الجهوية والمنخرطين وتقدّم الإعداد للمؤتمر 11 للتنظيم إلى جانب تدارس تطور الأوضاع العامة في تونس بعد أربعة أشهر من «انقلاب 25 جويلية»كما جاء في نص البيان

ولعل أهم نقطة ملفتة للانتباه في هذا الإصدار، المطالبة بانتخابات سابقة لأوانها وتنظيم حوار وطني حول الملفات الكبرى ومن بينها قانون الانتخابات والمحكمة الدستورية دون ربط ذلك بجدول زمني أو بترتيبات واضحة الأمر الذي يدفعنا إلى القول بأن هذه المقترحات هي مجرد رفع لسقف التفاوض غير المباشر مع الخصم المباشر رئيس الجمهورية قيس سعيد

وطبيعي هنا أن تذكّر النهضة بضرورة وضع حد لما تعتبره «تمشيا خطيرا» من خلال «احترام الدستور بدل تعليقه وتحكيمه بدل استبداله بالمرسوم عدد 117» واستعادة السلطة التشريعية لدورها التشريعي والرقابي كاملا وتشكيل حكومة كاملة الشرعية وذات أولويات اقتصادية اجتماعية تنهض بالإصلاحات المستعجلة وتتعاون مع الشركاء الاجتماعيين واحترام مبدإ اللامركزية وما يقتضيه من استقلالية واهتمام ورعاية

هذه اللغة الخشبية تعيد إلى الأذهان بيانات أحزاب الحكم المنكسرة وقياداتها التي تجنح للمكابرة والهروب إلى الأمام والإيهام بأن الوضع الداخلي للتنظيم على ما يرام وفي المقابل ترمي باللائمة على الآخرين

إن النهضة على سبيل المثال، عندما تعتبر أن رئيس الجمهورية قيس سعيد قد «عجز رغم جمعه كل السلطات بيديه عن تقديم حلول لقضايا البلاد وإمعانه في خطابات التقسيم والاتهام والتهديد» تتجاهل أنها كانت على امتداد عقد من الزمن تجمع كل السلطات تقريبا وكانت العمود الفقري لمنظومة الحكم وكان حصادها مخيّبا للآمال، وحتى «الشعب» الذي تتخفى وراءه وتستدل به لبيان «حدود ما يطرحه سعيد وخطورة سياساته الغامضة والمرتجلة على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي وعلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعلى علاقات تونس الدولية زيادة عما أصاب الحقوق والحريات من انتكاسة» هي نفس المخاوف التي كانت لهذا «الشعب» تحت حكم النهضة

وحتى في انتقاد ما وصفته بـ«القرار الخطير» الذي اتخذه رئيس الجمهورية بحذف وزارة الحكم المحلي وإلحاقها بوزارة الداخلية وبالتالي مصادرة الباب السابع من الدستور حسب رأيها، تُظهر النهضة أن رهانها على الحكم المحلي الذي هو بوابة الحكم الجهوي والمركزي قد سقط في الماء كما يقال بما أنها فشلت وهي ممثلة في جميع بلديات البلاد بل وتمسك بمقود العديد منها في إنجاح التجربة وضمان استمرار وحدة الدولة

ويظل الأمر الأهم في بيان المكتب التنفيذي هو في تقديرنا العودة إلى التباكي وإلى المظلومية التي كانت سلاحا ناجعا للنهضة بعد ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة لاستمالة التونسيين وتمرير حيلة «الخوف من الله» والتعرض للاستهداف لإحكام القبضة على البلاد والعباد

هنا فقرات عديدة في البيان تستعرض «المظالم» التي استنكرتها النهضة على غرار «مواصلة التنكيل بالنواب عبر حرمانهم وعائلاتهم من الحقوق المادية والصحية ورفض تجديد جوازات السفر لهم» كذلك مصادرة 1574 كتاب بالمعرض الدولي للكتاب بسبب التعرض لحركة النهضة وغيرها من الحركات الإسلامية أو بسبب موقف مؤلفيها وتخلص قيادة النهضة إلى أن كل هذا مردّه : خلفية إيديولوجية أو سياسية إقصائية

ليس ذلك فحسب، يدين البيان «الإعتداءات الأمنية التي طالت عددا ممن شاركوا في مسيرة 14 نوفمبر بباردو ومساءلة الكثيرين منهم عن علاقتهم بحزب النهضة واجتماعاته وانتمائهم إليه»، وتفاجئنا النهضة هنا بالذات بالحديث عن «رسالة الأمن الجمهوري»وتقول أنها سبق وأن نبهت إلى ضرورة بقاء المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية والإدارة على الحياد لأداء دورها الوطني بعيدا عن كل توظيف

ومرة أخرى تندّد «القيادة» بما تعتبره حركة النهضة حملة إعلامية مغرضة تستهدفها وقيادتها وتؤكد «أن الذين يقفون وراء هذه الحملة معروفون قبل الثورة وبعدها باعتماد الكذب والافتراء كما كانوا على الدوام أداة المستبدين لقمع المعارضين ونشطاء حقوق الإنسان والنقابيين» وكأن النهضة أو بالأحرى أنصارها لم يأتوا البتة بمثل هذه الأمور تجاه الخصوم من الأفراد أو الأحزاب أو المنظمات أو النقابات

وفي مؤشر قوي على أن قيادة النهضة وتحديدا رئيسها راشد الغنوشي لم يتلق ولم يستوعب دروس 25 جويلية وما قبله وما بعده، أن نقرأ في خاتمة البيان أن الحركة «تهيب بالمواطنين والمواطنات إلى التحري حتى لا يقعوا فريسة هذه الحملات المضلّلة أو الخطابات الشعبوية التي لم ولن تجن منها البلاد شيئا مذكورا» وهي نفس «الأفكار» تقريبا التي يسوّق لها قادة في التنظيم متواجدون خارج حدود الوطن ويراهنون على هياكل مثل الاتحاد البرلماني الدولي الذي لا يعرفه ولا يعلم بوجوده طيف واسع من التونسيين

بقلم: مراد علالة