في الأفق «نهضة» واحدة أم «نهضات» متعدّدة

الخروج من التنظيم مغامرة غير مضمونة النتائج وهناك وعي مجتمعي أو لنقل بشيء من التنسيب مزاج شعبي مناوئ ليس فقط للإسلام السياسي وإنما لرموزه وشخصياته التي فشلت في حكم البلاد باسم الله

*********

لم يكن رجما بالغيب، ولم يكن كرها لشخص أو لمجموعة أشخاص هم في نهاية المطاف توانسة حتى وإن كانوا خصوما لتونس المدنية ورموز حداثتها، بل كانت قراءة في طبيعة تنظيم عقائدي أصولي متشدد وفكر سلفي وسلوك أحادي لمرشده، لذلك أكّدنا يوم «طلوع البدر» ووصول أحد أبرز مؤسسي النهضة راشد الغنوشي إلى بلادنا بعد 14 جانفي 2011 وقوله أن التاريخ أنصفه وأنه يتعفّف عن الاضطلاع بأي وظيفة أو مهام رسمية في الحركة أو في البلاد، أن هذا الكلام مجانب للصواب ولا يخرج عن خانة التضليل والتقية والتسويق السياسي وتأكّد لنا ذلك بعد المؤتمرين التاسع والعاشر للحركة ووضع الشيخ لربطة العنق وارتداء البدلة «الافرنجية» كما يقال

ولم يكن سرّا إصرار «الشيخ» على لعب الدور الأول في الحركة التي غيّرت جلدتها من «جماعة» إلى «اتجاه» إلى «نهضة» والأخطر من ذلك أن نهم «السلطة» بكل مواقعها وأشكالها أصبح الشغل الشاغل لـ«الرئيس»، رئيس كل شيء، رئيس الحركة، رئيس البرلمان وحتى رئيس الجمهورية حلم 2024 

قد يكون حلم قرطاج جزءا من «توافق باريس» المشؤوم عام 2013، لكن الأوضاع الراهنة في البلاد وفي التنظيم تنبئ بأن هذا الحلم أصبح غاية صعبة المنال والأرجح أنها مجرد أضغاث أحلام، وحتى الاحتفاظ برئاسة التنظيم فلن تكون سوى مسألة رمزية لـ«نهضة» لا تمت للنهضة التي عرفناها بصلة بما أننا قد نجد أنفسنا قريبا أمام «نهضات» متعددة

لقد أوصل راشد الغنوشي النهضة إلى نهاية النفق أو كما قال القيادي «الضال» عماد الحمامي «أدخلها في حيط»، والطريف أن رئيس الحركة ورئيس البرلمان المجمّد أقدم على تجميد أخيه عماد وعلم هذا الأخير بقرار تجميده في وسائل الإعلام تماما بنفس الطريقة التي سمع بها نواب الشعب ورئيسهم «الشيخ» بقرار التجميد الرئاسي الجمهوري 

هكذا تُدار الأمور في النهضة ومنذ زمن بعيد، ولن تكون «وضعية» عماد الحمامي سوى القطرة التي ستفيض الكأس بما أن ما كشفه سبق وان كشفه «غاضبون» كثر فيهم من قفز من المركب واستقال من التنظيم وفيهم من ما يزال يجاهد من داخله

سحب الغطاء

ويحمّل الحمامي بعد تجميده وحتى قبل ذلك الغنوشي المسؤولية ويقول أنه «المسؤول رقم واحد» في ما حل بالنهضة وبحوكمة النهضة وانه «لا وجود لشفافية ولا لحسن تسيير ولا وجود لاختيار على أساس الكفاءة» ويتهم «الشيخ» بإبعاد الكفاءات واستهدافها مقابل التعويل على «جوقة» من «متوسطي وعديمي الكفاءة» وينتهي إلى أن من يخالف سياسة الحركة ومقررات المؤتمر العاشر وخطها السياسي هم القائمون الآن على تسييرها

ليس ذلك فحسب، يزعم الحمامي أن «كل نهضوي من خارج جوقة الغنوشي يدعم مسار رئيس الجمهورية في الإصلاح ومحاربة الفساد»

وبالرجوع الى قائمة «الغاضبين» أو «المغضوب عليهم» فقد سبق الكثيرون عماد الحمامي، وكانت البداية مع عبد الحميد الجلاصي «رجل الماكينة» كما يقال، والذي أعلن استقالته رفضا لوجود اسم راشد الغنوشي على رأس الحركة لمدة خمسة عقود وقال أيضا أنه يرفض أن يكون : شريكا في هذه المسرحية

وقد اعتُبرت استقالة الجلاصي بمثابة سحب للغطاء الديني والأخلاقي عن الحركة حيث قال بوضوح وبجرأة كبيرة في نص استقالته : الخلاصة التي أصل إليها اليوم أنه تم استنزاف الرصيد الأخلاقي والقيمي والأركان التأسيسية مثل الصدق والإخلاص والتجرد والإيفاء بالتعاقدات والديمقراطية والانحياز الاجتماعي والتحرر الحضاري والنبض التغييري

كما ركّز الجلاصي في رسالة استقالته المطولة على أن احتكار القرار داخل التنظيم أورثه الكثير من الأمراض ومنها أن : تنتشر الشللية والتدخلات العائلية وتصبح الهياكل الموحدة للحركة سببا في اختلاق وتغذية التصنيفات داخل الجسم

الإشارة المباشرة لدور العائلة أو الحاشية أو الجوقة والتأشير لغياب الديمقراطية ومركزية القرار تواصلا في مواقف الغاضبين مثل لطفي زيتون الذي قفز أيضا من التنظيم وتخلى ربما عن أهم منصب فيه وهو منصب المستشار السياسي للشيخ وأحد ثقاته في المهجر وسنوات الجمر في بريطانيا دون أن ننسى عددا من قادة الصف الأول مثل زبير الشهودي وهو ايضا من ثقاة الشيخ وأحد ابرز من عمل بجانبه، وكذلك الشباب الذي استقال أيضا «ثورة» على القيادة : المسنّة

الحقيقة واحدة

أما بالنسبة إلى من صمد من الغاضبين وما يزال متحفّظا ومحتفظا بانخراطه في النهضة فهم كثر أيضا وفيهم الموقّعون على عريضة المائة وأبرزهم عبد اللطيف المكي وكذلك محمد بن سالم الذي قال في القيادة ما لم يقله خصومها من خارجها وتحدث عن وجود «مرتزقة» في التنظيم ونصح راشد الغنوشي قائلا أن هذا الأخير : زعيم للحركة ليس فقط رئيسها …لا نريد أن يخرج من الباب الصغير، نريده أن يبقى زعيما للحركة حتى و إن لم يعد رئيسها

ويبدو أن هذه الرسالة لم تصل إلى الشيخ أو الأصح أنها لم تعجبه فعمل بخلافها وها هو مثلا يرتكب خطأ جسيما تجاه القيادي عماد الحمامي ويخضع للتحريض على حد قول القيادي سمير ديلو ويقرر تجميده وهذه حسب رأيه : خطوة خاطئة بكل المقاييس القانونية والسياسية والاعتبارات الداخلية للحزب.. هي خطوة مفاجئة ونفهم منها انه ربما هناك بعض من محيط رئيس الحركة شجعوه على اتخاذ هذا القرار ولا أظن أن المقصود منه هو الحمامي بل ربما المقصود هم أصوات المعارضة الذين يتحدثون في الإعلام بغاية إسكاتهم

هي الحقيقة إذن، أو نهاية الرحلة والوصول الى «الحيط» ويبدو أن قرار راشد الغنوشي و«جوقته» جاهز لا رجعة فيه، من يريد البقاء وفي الخط «المرشد» والمؤسس فمرحبا به ومن لم يعجبه ذلك فمصيره التجميد أو الخروج الآمن من الحركة

وفي تقديرنا فإن قرار التجميد وتزامنه مع اجتماع قيادي للحركة وتكريم أعضاء فقط من المكتب التنفيذي المنحل وغياب أعضاء آخرين رسالة واضحة لمن يريد القفز من المركب إما لـ«التقاعد» والبقاء على دكة الاحتياط كما فعل الأمينان العامان السابقان حمادي الجبالي وزياد العذاري أو تأسيس كيانات حزبية جديدة مثلما عبر عن ذلك بعض «الغاضبين» الذين يفكرون جديا في تأسيس حزب يحمل القيم التي تأسست عليها النهضة وان ذلك سيتم كما كشف عماد الحمامي نفسه بلا تسرّع ويضيف ان هؤلاء المؤسسين : يحبون النهضة ومناضليها.. ومازال للقيم التي تأسست عليها موقع

وطبيعي أن يزعم الحمامي هنا ان «الإسلام السياسي انتهى» بالنسبة إليه وان الغنوشي انتهى سياسيا ايضا ويتهمه بأنه المسؤول رقم واحد عن كل مشاكلها وبأنه اتخذها كرهينة

إنه من الصعب أن ينطلي هذا الكلام على المتابعين للشأن العام ببلادنا أو حتى خارجها فعماد الحمامي ومحمد بن سالم ولطفي زيتون وعبد الطيف المكي ونورالدين البحيري وعبد الكريم الهاروني ومحمد القوماني وعبد الحميد الجلاصي والصحبي عتيق ورفيق عبد السلام وغيرهم أبناء تاريخيون في التنظيم، والمغامرة بالخروج منه غير مضمونة النتائج ولنا في وضعية عبد الفتاح مورو ورياض الشعيبي أفضل دليل، علاوة على وعي مجتمعي أو لنقل بشيء من التنسيب مزاج شعبي مناوئ ليس فقط للاسلام السياسي وإنما لرموزه وشخصياته التي حكمت البلاد على امتداد عقد من الزمن وبرهنت على فشلها في الاضطلاع بأعباء الحكم باسم الله والوفاء بالعديد من الشعارات وأبرزها تونسة النهضة وفصل الدعوي عن السياسي

بقلم: مراد علالة