في استراتيجية مقاومة الإرهاب

يتفق أغلب التونسيين المعتنين بالشأن العام والرافضين لظاهرة العنف والإرهاب، وإن اختلفت مرجعياتهم الفكرية والإيديولوجية، على أن مقاومة هذه الظاهرة التي أنهكت الدولة التونسية وخلقت أسبابا للتناحر الداخلي وللعداء بين فئات من الشعب لم يعرفها التونسيون حتى خلال اشتداد سطوة استبداد الأنظمة السابقة، لا يمكن أن تقتصر على المعالجة الأمنية وإن كانت هذه ضرورية، بل يجب أن يرفد العمل الأمني عمل فكري ثقافي يحصن العقول والوعي من جرثومة الفكر الإرهابي التي بدأت تنخر عقول أعداد متزايدة من فئات متنوعة اجتماعيا وعمريا. فكيف نفهم هذا الاتفاق؟ وكيف يمكن تفعيله إجرائيا؟ وما هي الخطط الاستراتيجية الكفيلة بالقضاء على الإرهاب؟

إذا كان الإرهاب في أبسط تعريفاته يفيد الاستخدام غير المشروع للعنف ووسائل القوّة وأدواتها بهدف تحقيق مصلحة تخص فاعله، فإن أول الأسئلة التي يجب أن تطرح هي : هل إن هذا الاستخدام فردي؟ وإذا كان كذلك ما الفرق بين الإرهاب والجريمة؟ وهل الإرهاب الذي تعاني منه تونس داخل ضمن هذا التعريف أم هو إرهاب أخطر لأنه منظم وسياسي بالدرجة الأولى ويستهدف الدولة ذاتها؟
من الواضح إذا تتبعنا العمليات الإرهابية التي حصلت في تونس أن الاستخدام غير المشروع للعنف ووسائل القوة ومنها خاصة الأسلحة وإن كان فواعله الظاهرون أفرادا إلا أنه يتنزل ضمن استراتيجية منظمة ذات أهداف سياسية في المقام الأول، وهو ما يبدو واضحا من خلال المستهدفين في هذه العمليات، وهم عامة رموز الدولة ومؤسساتها والقطاعات التي ينهض عليها اقتصادها، وحتى استهداف شخصيات وطنية من أعلام السياسة فإنما يستهدفون بصفتهم تلك مما يؤكد أن المستهدف الأبعد من وراء الجرائم التي تعرضوا لها هو الاستقرار السياسي للدولة عبر خلق وضعية مناسبة للصراع والتناحر وحتى للفراغ السياسي الذي يسهل للإرهابيين تحصيل المنفعة المنشودة. وإذا نظرنا من جهة فواعل الإرهاب وخلفياتهم الإيديولوجية وجدنا قاسما مشتركا بينهم جميعا وهو اقتناعهم بأن هذه الدولة التي يستهدفون رموزها ومؤسساتها ومصالحها هي دولة « طاغوت » لأنها تستند إلى قوانين وضعية وتعتمد على مؤسسات تحتكم إلى نظام ديموقراطي ، وهي من ثمة تستوجب العمل على إسقاطها من أجل إقامة دولة بديل، وهي، بحسب ما تدل عليه مرجعياتهم الفكرية والعقائدية، دولة الشريعة التي يجب أن تحتكم إلى النظام الشرعي الذي تمثله دولة الخلافة

هذه المعطيات إذن تؤدي إلى استنتاج بديهي مفاده أن تونس تواجه إرهابا سياسيا منظما يستهدف الدولة ويرمي إلى تحقيق أهداف سياسية تدور حول إقامة نظام بديل لنظام دولة القانون والمؤسسات والديموقراطية، ولذلك نعتبر الصمت على هذه الحقيقة وتجاهلها والتعامل مع الإرهاب وكأنه عمليات فردية معزولة لا يربط بينها رابط ولا تتنزل ضمن استراتيجية منظمة ذات أهداف سياسية في المقام الأول وتقف وراءها تنظيمات سياسية تخطط وتوفر وسائل التنفيذ العنيفة وأدواته خطأ استرايجيا لن يسمح لأي شكل من أشكال مقاومة الإرهاب بالقضاء عليه، هذا إذا أحسنا الظن واعتبرنا الأمر خطأ في التقدير، ولكن قد يجوز أيضا أن نعتبر هذا التجاهل شكلا من أشكال التآمر مع هذا المخطط الإرهابي يستوجب البحث كذلك عن المتورطين فيه وعمن يسهلون للإرهابيين تنفيذ استراتيجيتهم من داخل الدولة نفسها. ومن ثمة تصير المعالجة الأمنية القائمة على استهداف الفواعل الظاهريين والمنفذين وحدهم معالجة قاصرة عن تحقيق الغاية الأبعد وهي حماية الدولة ومؤسساتها ونظامها ومصالحها التي هي في الآن ذاته مصالح الشعب كله. إن هذه المعالجة لن تكون مجدية إلا متى حددت بكل وضوح وبالجرأة المطلوبة التنظيمات السياسية التي تقف وراء الإرهابيين وتمدهم بالخطط والوسائل المستخدمة في التنفيذ والتي تتبنى الفكر نفسه والمشروع نفسه وتنظر له وتجند من أجل تحقيقه شبكة واسعة يجتمع فيها المسجد والمدرسة « القرآنية » والجمعية « الخيرية » والجمعيات المتسترة بشعار دمقرطة الإسلام والعاملة على زرع الفكر نفسه والعقيدة نفسها التي تحرك الإرهابي وتدفعه إلى تنفيذ ما جند من أجل تنفيذه

أما الاستراتيجية بعيدة المدى لمقاومة الإرهاب فهي استراتيجية معرفية ثقافية وإعلامية يجب أن تتضافر فيها المؤسسة التعليمية والثقافية والإعلامية من أجل تحصين العقول من التسرب الإرهابي الذي يستغل المكون العقائدي للشخصية التونسية بهدف تحويله عن طبيعته الإيمانية وحقنه بمضمون إيديولوجي يستمد عناصره من إيديولوجيا الإسلام السياسي. وإذا كان التصدّي لمثل هذا المخطط يقتضي التفكير المعمق والتخطيط الاستراتيجي لإصلاح تعليمي يشمل كل مراحل التعليم ويشارك فيه الخبراء المؤهلون لمثل هذا الأمر، ولنا منهم كثيرون في بلادنا إلا أنهم مغيبون، فإن الخطوة الأولى المتاحة حاليا هي توحيد التعليم ووضعه تحت سلطة الدولة أساسا من جهة البرامج التي تدرس ومنهجيات التدريس، بما في ذلك المدارس والمؤسسات التعليمية الخاصة التي يبدو أن العديد منها خارج على هذا السياق وعلى سلطة الدولة أيضا وتفرض على مرتاديها برامج ومنهجيات ونظاما غير ما تضبطه مؤسسات الدولة المؤهلة لذلك وهو أمر يدعو إلى التساؤل حول دور الدولة في مراقبة هذه المؤسسات التي انتصبت في تونس بعد الثورة تحت غطاء المدارس القرآنية وتعليم الشريعة دون أن يكون للمجتمع معرفة دقيقة وصحيحة بمن يقف وراءها ولا بما يرمى إليه حقا مما يدرس فيها والحال أن الكثير منها تحول إلى أوكار حاضنة للفكر العنيف المؤهل لصناعة الإرهاب

وإذا كنا نؤمن بأن المدرسة هي صانعة العقول فإن هذه العقول لن تكون إلا على هيئة ما تتلقاه من معارف ومن كيفيات التعليم ومنهجياته، فضلا عن أن المدرسة الوطنية العمومية التونسية المؤهلة لبناء العقول المنفتحة على المعرفة الحديثة وعلى منهجيات التفكير النقدي المستقل ولبناء الشخصية المتوازنة والعقلانية لن تنجح في تحقيق هدفها هذا إذا كانت هناك مؤسسات أخرى تهدم ما تبنيه المدرسة ، وهنا نشير إلى المؤسسة الإعلامية التي يفترض أن تكون مكملا للمدرسة في تثبيت الوعي المواطني المدني، ولكن يسهل للملاحظ أن يدرك أن هناك بالفعل مؤسسات إعلامية تعمل، من حيث تقصد ذلك أو لا تقصده، على هدم ما تبنيه المدرسة إما بما تبثه من برامج لا تختلف في مضمونها وفي أسلوبها القائم على التلقين وعلى الترغيب والترهيب عن مضمون الفكر المتطرف والمنغلق الباني للعقل الإرهابي، أو ببرامجها المغرقة في التفاهة وفي التسطيح وفي خلق أنماط سلوكية جامعة بين أسوأ ما في الثقافة الليبرالية الاستهلاكية وأسوأ ما في الثقافة الشعبية من معتقدات خرافية وشعوذة
إننا نحتاج في مواجهة الفكر المتطرف والعنيف إلى ثقافة وطنية عقلانية متنورة ومنفتحة على المعارف الإنسانية الحديثة، إلى ثقافة العمل والجدّ والانضباط في مواجهة ثقافة التسيب والكسل واللامبالاة بالأهداف الوطنية وتقديم المصلحة الفردية على المصلحة العامة، إلى ثقافة مواطنية مدنية تزرع الوعي بأن مصلحة الفرد المشروعة لا يمكن أن تتحقق إلا في سياق المصلحة الوطنية العامة وفي صلبها، وهذا لن يكون ممكنا في نظرنا إلا باستراتيجية ثابتة وعلمية ومخطط لها تخطيطا جيدا تتضافر فيها وتلتقي حولها المؤسسة التعليمية والثقافية والإعلامية

بقلم زهية جويرو