عَماء البصر قدرٌ، لكن عَماء البَصِيرة عند المسؤول، ذنب لا يُغتَفَر

لا أريد أن أصدق أن السلط الثلاث مجتمعة وصلت إلى هذه الدرجة من عماء البصيرة جعلتها غير قادرة على قراءة الواقع الذي دعا قرابة كل المجتمع، أو بالتدقيق 89% منه لفقد الثقة كليا في المسار الذي تتجه نحوه البلاد، مثلما أتت به نتائج آخر سبر للآراء. فشل ذريع مخجل إلى أبعد الحدود والذي سوف يُسجله التاريخ ضد كل الذين تقلدوا أي كرسي سلطة في العشرية الأخيرة، والإستثناءات تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة للأسف. هذا الواقع الذي يزداد في التدهور كل ساعة في ظل تواصل المناكفات حول اليمين الدستوري

لم نعد نقدر على الحديث عن تدهور للمقدرة الشرائية لأنها ببساطة قد سقطت، والبلد على شفى الإفلاس، حسب التصريحات الأخيرة لمحافظ البنك المركزي، في حين يواصل رئيس الحكومة مشاوراته مع المحكمة الإدارية وغيرها، كما لو كان الوضع طبيعياً، دون أن يعبأ بكل الإخلالات التي من شأنها تهديد الأمن القومي والتماسك الإجتماعي والوحدة الوطنية. الجميع يلعب بسمعة تونس في الداخل والخارج بكل عبثية وإستهزاء بمصداقية بلدنا ومكانته السابقة بين الأمم. الظاهر أن أحزاب الإسلام السياسي أصبحت تتحكم في كل دواليب الدولة، الأمر الذي لم يعد خافيا على العيان. وها هو الإسلام السياسي، بقيادة حركة النهضة، يعلن تنظيم مسيرة، يوم 27 فيفري، ضد رئيس الجمهورية و »مناصرة للدستور » و »المسار الديمقراطي ». وهذا الإعلان يمكن وضعه في خانة مهازل زمن العهر السياسي والإستهزاء بعقول التونسيين والتونسيات

كوارث الفسفاط والكامور والأسمدة والنفايات تتوالى الواحدة تلو الأخرى غير سامحة للمواطن أن يتنفس بين الكارثة والأخرى. وحتى لما تتوقف هذه الكوارث لبضعة أيام، تأتي العدالة غير العادلة بأحكامها الجائرة ضد شباب إستهلك زطلة أو مارس حقه في التظاهر، أو حتى خرج لقضاء حاجة ما وجد نفسه في عربية الشرطة ويحكم عليه في الغد بسنةٍ سجنا لأنه فقط وُجد في المكان الخطأ وفي الزمن الخطأ. وتنزلق العائلات في حزن وقهر وغبن لا مخرج منه إلا بخروج فلذات أكبادهم من سجون مكتظة في زمن الحرية التي أتت بها : الثورة

لمصلحة مَن كل هذا، في حين تستغرق جرائم الإغتيالات السياسية، وقضايا الإرهاب بشتى أنواعها، سنين طويلة دون أن يُبَتَّ فيها؟

رداءة الحكومة الحالية تُفسِّر العقلية التي أصبحت عليها وزارة الفلاحة مثلا التي ترأسها إمرأة لكن تطغى عليها العقلية الذكورية والتي تسمح لنفسها بأن تنشر إعلان عمل لايُسمح أن يتقدم له إلا « ذكر ». ولقد كنت قدمت في برنامجي الأسبوعي على القناة الإذاعية تونس الدولية مع دنيا الشاوش مثال شابة إختارت من تربية الأغنام، مهنة تعتز بإمتهانها

ولو أردنا التركيز على كل الأخطاء الجسيمة التي ترتكب كل يوم، في حق الشعب التونسي، من لامبالاة لمعاناته اليومية، لإحتجنا لأكثر من مقال، ولكن ما الفائدة وقد فقد الجميع القدرة على الإنصات بل حتى على الإستماع

والسؤال الذي يطرح نفسه: أين نحن من التنمية وما يهم الشعب التونسي من تفاقم أزمة البطالة، وتردي مستوى التعليم والصحة في ظل جائحة، لم نقدر حتى على توفير التطعيم ضدها مثل باقي جيراننا. الصورة أصبحت كاريكاتورية، تجد فيها المواطن مثل الدمية التي يتلاعب بها المحتكرون والبنوك والخواص مثل المصحات التي يُلتجأُ لها اضطرارا لأن المستشفيات أصبحت مكتظة وغير قادرة على تقديم أبسط الخدمات، وفي جوٍّ من قلة الإعتراف للطاقم الطبي وشبه الطبي بحقوقه ولأفضاله، وهو الذي يبذل مجهوداً خرافياً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه

آن الأوان لإقتراح البديل لإيقاف المهازل التي تحصل يوميا في أروقة السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، لأنه ليس في مصلحة الشعب التونسي أن ننتظر إلى حد إفلاس الدولة كليًّا وعدم القدرة على صرف الرواتب والجرايات، لأن ذلك سوف يكون له تداعيات وخيمة على جميع فيئات المجتمع، لا تحمد عقباها

يجب أن يستفيق الجميع… وربما ما صرح به الأميرال كمال العكروت في ظهوره ضيفا رئيسيا في حلقة تلفزية ٌحدى القنوات الخاصة، خلال سهرة الجمعة 12 فيفري، يمكن أن يكون دليلا على أن الوضع هو الذي إستدعى هذا لظهور ولم يكن صدفة. فبالرغم من أن واجب التحفظ منعه من أن يجيب على بعض المساءل الحساسة وخاصة أن يشارك ما يعرفه عن ملف إغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي والأمن الموازي، إلا أن ماأفاد به يُعتبرفي غاية الأهمية. فهل سوف يُسهم هذا الظهور، الذي هو بمثابة ناقوس الخطر، في إستفاقة الجميع؟….

المستقبل هوالكفيل بالإجابة عن هذا السؤال

بقلم خديجة توفيق معلى