عودة الى جوهر الموضوع… كيف نُفَعِّل تقارير محكمة المحاسبات ونستثمرها ؟

شهدت نهاية الاسبوع المنقضي سلسلة من الأحداث والتطورات المتعلقة بأزمة الحكم ببلادنا وسمعنا بالمناسبة تصريحات على غاية من الأهمية صدرت عن «أطراف» في الحكم وأخرى في المعارضة تتحدث جميعها عن الفساد والمفسدين على غرار رئيس الجمهورية الذي أكد وجود الفساد والافلاس السياسي لا الفساد والافلاس المادي الذي يعترف به البعض في اشارة غير مباشرة الى حركة النهضة وخصمه اللدود رئيسها راشد الغنوشي، فيما وضع رئيس حزب العمال جميع أركان منظومة الحكم في سلّة واحدة وانتقد استفحال الظاهرة في تونس وتفاقمها بعد 2011 دون وجود رؤية ومقاربة وارادة حقيقية لمقاومة الظاهرة

وحتى لا نتمادى فقط في لعن الظلام يستوجب علينا ايقاد الشموع والاستفادة من الجهود المنجزة على درب بناء مؤسسات الدولة القوية العادلة، دولة القانون والمؤسسات كما يقال ولا مناص اليوم من الاستفادة من هيئات رقابية وقضائية قائمة كانت لها مصداقية قبل ملحمة 14 جانفي غير المكتملة ولا شيء يمنع من استمرارها في رسالتها وتطويرها على غرار المحكمة الادارية ودائرة المحاسبات التي تحولت الى محكمة المحاسبات في 2019 وهي تضطلع بدور قضائي ورقابي وبوظيفة المساعدة للسلطة السياسية من خلال مراقبة تنفيذ القوانين وتقييم السياسات والبرامج العمومية وغيره

وقد صنعت محكمة المحاسبات نهاية 2020 الحدث باصدار تقرير حول الانتخابات الرئاسية والتشريعية للعام 2019 ومع مطلع العام الجاري عرضت في ندوة صحفية مزعزعة إن جاز القول يوم 11 فيفري المنقضي تقريرا ضخما هو التقرير عدد 32 في حدود 879 صفحة وملخص يبلغ 84 صفحة تغطي مادته الفترة بين 2018 و2019 ويستند الى نتائج 19 مهمة رقابية قام بها قضاة المحكمة شملت برامج عمومية وأنشطة قطاعية ومصالح للدولة (حوادث الشغل، المصحات الخاصة، مياه الري، بنك الاسكان، الخدمات الجامعية، تأهيل مسالك توزيع الفلاحة، أسطول عربات وزارة التجهيز، بلدية صفاقس، ديون الدولة، شركات الخدمات، تمويل الجمعيات…)

ورغم أن تقليد نشر التقارير من لدن المحكمة بدأ في 2011 وتلته الندوات الصحفية في 2012، فان التقارير الأخيرة تمثل نقلة نوعية لا فقط من حيث حجم الخروقات والتجاوزات واتساع دائرتها لتشمل كل شيء على هذه الأرض، وانما للتناول العلمي والتقني والحرفي للمهمات والصياغة الايجابية لجملة من التوصيات التي لو يقع العمل بجزء منها على الأقل لا كلها سيتغير حال البلاد والعباد

وقد سجل المتابعون خطوات ايجابية في علاقة بما تسميه محكمة المحاسبات ب «الأخطاء المتعلقة بالتصرف» والتي تحال على دائرة مختصة في زجر أخطاء التصرف صلبها لكن السؤال يظل مطروحا بخصوص الملفات التي تتضمن تجاوزات جزائية وتحال على القضاء العدلي

صحيح ان حجم هذه الملفات كبير والاطراف المعنية صلبها كثيرة لكن ليست أمامنا خيارات كثيرة فمصداقية العمل برمتها مرهونة بالبت في هذه الملفات في أفضل الآجال لأن طول أمد المحاكمات يضر وفق المختصين بمبدإ المحاكمات العادلة وثمة مواضيع لا تحتمل التأجيل فعدم البت مثلا في الجرائم الانتخابية ووجود المال الفاسد لدى أحزاب وجمعيات قد يصبح بلا معنى عندما تنتهي الولاية الانتخابية أو عندما يظفر المعني بالحصانة في ظل موازين قوى سياسية تسمح بالافلات من العقاب

علاوة على ذلك طول مدة البت في الملفات تمنع السلطة السياسية من ترتيب بيتها الداخلي بطبيعة الحال ولا يشجعها على تغيير سياستها في انتظار الحسم القضائي على قاعدة ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته وفي كل هذه المراحل إهدار للجهد وتعريض لهيبة الدولة للخطر واستهداف أيضا لمؤسساتها وهيئاتها الرقابية

اننا اليوم بحاجة الى تفعيل ما ورد في تقارير محكمة المحاسبات انصافا للدولة وحماية للديمقراطية الناشئة، ليس ذلك فحسب نرى أنه لزاما علينا استثمار عمل محكمة المحاسبات، أجل الاستثمار الجيد حتى نتقدم بصدق وفعالية في مسار مقاومة الفساد

انه باستثناء البنك المركزي الذي تفاعل منذ اليوم الأول مع محتوى تقرير محكمة المحاسبات عدد 32 لم نسجل صراحة ردود أفعال في مستوى جسامة وأهمية ما ورد فيه تماما مثل التقرير المتعلق بتجاوزات الانتخابات التشريعية والرئاسية للعام 2019، فباستثناء حزب العمال الذي توجه بشكاية للقضاء لم يتفاعل البقية مع هذا الجهد القيّم لمحكمة المحاسبات والذي سيسمح لو يقع تعزيزه بتنقية انتخاباتنا القادمة ولجم كل من تخول له نفسه تزويرها بشتى الطرق وبالتالي إفساد الحياة السياسية وتعميق الازمة الاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية المستفحلة في البلاد

ان «الحقائق» والتوصيات التي تضمنتها تقارير محكمة المحاسبات يفترض ان يتلقفها المشرّع على سبيل المثال في موضوع الإطار التشريعي الخاص بتنظيم خدمات تعقيم المستلزمات الطبية وضرورة مواكبة كراس شروط القطاع الخاص للمعايير والمقاييس المتعلقة بالتعقيم في مختلف مراحله

كذلك الأمر بالنسبة الى السلطة التنفيذية التي يبدها تذليل عدد الصعوبات على غرار تمكين قباضة مالية من الموارد البشرية في جندوبة حتى تتمكّن من القيام بدورها

ولا ننسى أيضا دور المجتمع المدني الذي يؤسفنا ويؤلمنا عدم تفاعله واستثماره لتقارير محكمة المحاسبات وهي نفس الملاحظة التي نسوقها للإعلام الذي وإن قام بدوره لحظة صدور هذه التقارير إلا أنه لم يواصل المتابعة فالمعركة طويلة الأمد وليست مناسباتية مع الإشارة الى أهمية أن تلتفت محكمة المحاسبات نفسها الى أهمية الجانب الاتصالي والاعلامي لإيصال رسالتها أولا وثانيا وهذا الأهم ضمان المساندة المستمرة لأعماله

بقلم: مراد علالة