شيء من التاريخ لفهم الحاضر : عن التجمع الدستوري الديمقراطي وحزب النهضة الإخواني

يلحظ المتابع للحياة السياسية في بلادنا أن عددا من منتسبي التجمع الدستوري الديمقراطي انتقلوا بعد أحداث 2011 إلى حركة النهضة الإخوانية وما جاورها رغم أن حزبهم كان يعلن عداوته للإسلام السياسي، فما سبب ذلك؟ وإلى أي شيء تعود هذه الهجرة الجماعية التي أفرغت حزبا كانت قيادته تتبجح بوجود ثلاثة ملايين « مناضل » تجمعي غابوا وخلت منهم الساحة ولم يعد لهم وجود إلا في حظيرة الخصوم السابقين؟، قد يكون للانتهازية والسعي إلى التموقع في الوضع الجديد دخل وتأثير إلا أن ذلك لا يفسّر الانهيار السريع للحزب واندثاره من الحياة السياسية كأنه لم يحكم طوال 23 سنة

بعد تغيير السابع من نوفمبر اتجه الرأي لدى البعض من المقربين من القيادة الجديدة إلى التخلي عن الحزب الاشتراكي الدستوري وإنشاء حزب جديد بديل هو حزب الرئيس وقد قاد هذه الجماعة بعض علماء الاجتماع إلا أن قدامى الدستوريين اعترضوا على ذلك واقترحوا الإبقاء على الحزب وهياكله والحفاظ على صفة الدستوري إلى أن استقر الأمر على تغيير اسم الحزب فقط ليصبح التجمع الدستوري الديمقراطي مع فتح أبوابه على مصاريعها لباقي التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية بوهم التجميع بشرط الدخول بصفة فردية وليس بصورة جماعية، فكان أن تهافت على الانخراط فيه كل عار ولابس من كل حدب وصوب وحفلت أيامها الجرائد والمجلات بقائمات المنخرطين الجدد فجَمَعَ المتناقضات وأصبح خليطا لا ينظمه ناظم فكري أو سياسي، والغريب في الأمر أن هذا الشتات المتنوع عُيِّن بعضه مباشرة في قيادة الحزب أي اللجنة المركزية ضمن الثلث الرئاسي لنجد في نهاية الأمر يساريا لا يمتلك سوى تجربة العمل في السرية وقد أصبح قياديا في حزب يحكم البلاد منذ 30 سنة ولا ننسى أن العائلة الرئاسية لعبت دورا كبيرا في تغيير صبغة الحزب حيث صُعِّد صخر الماطري وبلحسن الطرابلسي إلى المواقع القيادية فيه وفي الدولة فضلا عن تدخلها في التعيينات في مستويات مختلفة وهو ما جعل الحزبيين تفتر همّتهم لأن الحزب الذي كانوا يعتقدون أنه الوسيلة التي ستمكنهم من الوصول إلى المناصب العليا أصبح خارج اللعبة تماما وهو ما أدى إلى المزيد من إضعاف التماسك الداخلي لحزب افتقد الحيوية السياسية لبقائه في الحكم مدة طويلة، الأمر جعل منه جهازا بيروقراطيا لا عمل له سوى تجميع الناس في المناسبات الرسمية، بالإضافة إلى ما ذكر افتقدت قيادات الحزب المركزية والجهوية أي مشروعية قاعدية فأعضاء الديوان السياسي والكتاب العامّون للجان التنسيق يعيّنون ببلاغات من القصر الرئاسي لتنتهي بذلك كل علاقة لهذا الهيكل بما يجب أن يكون عليه الحزب كأداة مهمتها التأطير وإعداد القيادات فيصبح إدارة كباقي الإدارات الملحقة بالرئاسة

ومن الجدير بالملاحظة أن الأحزاب الفعلية التي تعمل من أجل التمدد واكتساب مواقع جديدة تعمد إلى اختلاق المناسبات حتى يشارك فيها جمهورها من المنتسبين وحزامها من المسيّسين والمثقفين وغيرهم من الفئات غير المنتسبة له، أما التجمع فقد كان يغرّد خارج السرب فحتى مناسبة السابع من نوفمبر جعل منها احتفالا للأجانب وليس للتونسيين فالندوة الدولية لا علاقة لها بمشاغلنا يُدعى إليها رؤساء حكومات ووزراء سابقين وأحزاب رسمية لتمرّ الندوة دون أن تترك أثرا بحيث لم تستغل هذه المناسبة وغيرها لشحذ الهمم في الحزب وتقوية الروابط بين منتسبيه عبر النقاش والحوار خصوصا لمّا نضع في الاعتبار أن النظام في تلك الفترة كان في مواجهة الحركة الإسلامية التي حرّرت مبادرة منتسبيها والغريب في الأمر أن حكم الرئيس السابق واجه الجرائم التي ارتكبها الإسلاميون مواجهة قانونية إلا أن التجمع الدستوري الديمقراطي الذي هو حزب الحكم لم يشارك فيها بالدفاع عن نظامه بل وقفت البعض من قياداته في صف الخصوم والبعض الآخر التزم الصمت أو مجاراة التيار الغالب داخل السلطة من ذلك مثلا

1) إثر بيان 2 أكتوبر 1989 الذي كفرت فيه حركة النهضة الإخوانية وزير التربية الأسبق المرحوم محمد الشرفي ودعت إلى إقالته نشرت جريدة الحرية افتتاحية في ملحقها الديني بتاريخ 6 أكتوبر 1989 تحت عنوان « عزيمة واضحة لمراجعة متأنية في التربية الإسلامية فلماذا الانزعاج والإثارة؟ » بقلم أحد النافذين أيامها صلاح الدين المستاوي الذي ختم مقاله بقوله: « ولذلك تصبح الإثارة للموضوع في هذا الوقت بالذات في غير محلها لا تخدم مصلحة تونس وأجيالها الصاعدة » وهو ما يعني أن التجمع بنشره هذا الكلام على صحيفته الرسمية لا اعتراض له على استعمال مصطلح التكفير في الخصومات السياسية طالما أنه يستهدف وجها يساريا مستقلا حتى وإن كان وزيرا في حكومة التجمع، واللافت للانتباه أن الأقلام التي تجنّدت للدفاع عن الإصلاح التربوي وعن مشروع الوزير جميعها لا علاقة لها بالتجمع بل أغلبها من القوى اليسارية والحداثية والمدنية وهو نفس الأمر الذي لاحظناه فيما بعد في الردّ على الأستاذ الأجهوري في تهجّمه على محمد الشرفي في مقاله « لهذا لا أريدك وزيرا »، ومجلة المغرب شاهدة على هذه الفترة بما حفلت من مقالات ونقاشات غاب عنها الحزب الحاكم تماما

2) ونحن بصدد الإصلاح التربوي الذي باشره محمد الشرفي قاد التهامي نقرة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى وعضو اللجنة المركزية للتجمع ورئيس جامعة الزيتونة الحملة المنادية بالإبقاء على البرامج القديمة بما تحمل من رؤى تتعلق بالجهاد والردّة و قطع الأيدي وغير ذلك كما أنه كان المحرك الأساسي للقضية التي افتعلها ضد يوسف الصديق بعد نشره رسوما كرتونية، فهل يحمل هذا الموقف من التهامي ومن كان معه في كلية الشريعة وأصول الدين على أساس أنه موقف شخصي أو حزبي؟

3) في الفترة التي احتدت فيها المواجهة بين السلطة وحركة الاتجاه الإسلامي قام التجمع في إطار مدارسه وأكاديميته السياسية بتنظيم محاضرات يشرح فيها فساد الرؤية الإخوانية للإسلام والغريب في الأمر أنه استعان بمن لا يمتلكون الصدق في مقاومة هذا الخصم فبدل أن يكونوا عونا للتجمع كانوا عونا عليه من ذلك أن عبد المجيد الشرفي حاضر في هذا الإطار في مركز الدراسات والتكوين في التجمع عن المؤسّسة الدينية في الإسلام ونشر مقالا في العدد الأوّل من مجلة رحاب المعرفة سنة 1998 يدعو فيه إلى إعادة الأوقاف المطلب أبدي لحركة الإخوان المسلمين أما التهامي نقرة فيكفي أن نعود إلى دوره المخرب للإصلاح التربوي وافتعاله قضية لتكفير يوسف الصديق، والذي نخلص إليه أن التجمع لم يكن مؤهلا لخوض أي معركة سياسية فحتى وهو في السلطة يخطئ في الفرز بين الأصدقاء والخصوم

4) قبل انتخابات 1999 وفي إطار الإعداد لذلك ذهب البعض من المقربين من الرئيس إلى أن الجهة الوحيدة التي يمكن أن تعترض على ترشيحه تتمثل في حركة النهضة لذا تفتقت عبقريتهم على حيلة ذات شعبتين

أ ـ محاولة إحداث خلاف داخل الحركة حول ترشيح الرئيس فاستمالوا الهاشمي الحامدي وأغدقت عليه الرئاسة ووكالة الاتصال من الأموال الشيء الكثير كما سُمح لجريدته بالتوزيع في تونس وهو ما اعترضت عليه وأنا في وزارة الداخلية فهذا التصرف لن يكون إلا في صالح النهضة لأن صاحب الرأي فيها هو راشد ولن يؤثر عليه لا الهاشمي ولا غيره ويشهد بذلك المدير العام للشؤون السياسية سي البشير المجذوب ومدير الانتخابات وقتها، روى لي المرحوم حسن الغضباني أن الهاشمي في أول مقابلة له مع الرئيس طلب إعفاء أنس الشابي من وزارة الداخلية لطبيعة موقفه المعادي للنهضة ولأن ذلك يمثل إشارة إيجابية لمواصلة الحوار، في نفس الفترة نشر محمد الطالبي مقالا في جريدة الحياة بتاريخ 30 مارس 1999 عرّض فيه بالرئيس السابق وذكر أنني أفسدت العلاقة بين النظام والجامعيين في لقائه بعبد الباقي الهرماسي وزير الثقافة أيامها وهو ما تم على أساسه إنهاء إلحاقي بوزارة الداخلية

ب ـ التقرب من يوسف القرضاوي ومن قناة الجزيرة ومحاولة التخفيف من حدّة خطابها عند تناول المسائل الوطنية الداخلية وفي هذا الاتجاه عُين محمد البلاجي سفيرا في قطر حيث يقيم القديدي صاحب العلاقات المتعددة هناك، ولما سافرت إلى قطر للمشاركة في برنامج الاتجاه المعاكس قابلت محمد البلاجي صحبة أحمد القديدي وفيصل البعطوط وفي الحديث معه أعلمني أنه بالتنسيق مع القديدي يعملان على ترطيب الأجواء مع القرضاوي لتخفيف حدّة معارضته للنظام ومن شدة غفلتهما رشوه بإهدائه تفسير التحرير والتنوير وفيما ذكر إشعار وطلب خفي لي بعدم التعرض للقرضاوي حتى لا أفسد عليهما مخططهما لأن البلاجي يعلم جيدا أني منعت كتب القرضاوي جميعها من الدخول إلى تونس ونشرت ضدّه في الصحافة محمّلا إياه مسؤولية ما حصل في الجزائر في العشرية السوداء وكانت النتيجة أن تعمدت ذكر شيخ الدماء وتحميله مسؤولية ما حدث ويحدث من إرهاب وهو أمر لم يعجب البلاجي الذي سارع بإرسال تقرير للرئاسة لأني أفسدت المخطط الذي أعدّه صحبة عبد الوهاب عبد الله كما ذكر هو نفسه في جريدة الصريح بتاريخ 29 ديسمبر 2016 ورددت عليه في الغد في نفس الجريدة

بهذا الأسلوب في التعامل مع ملف من أعقد الملفات أضاع التجمع هويته التي صاغتها الحركة الإصلاحية التونسية منذ النصف الثاني من القرن التاسع بإنشاء المدرسة الحربية بباردو وإصلاحات خير الدين باشا وتأسيس الرائد التونسي والمدرسة الصادقية وحركة الشباب التونسي وغيرها وصولا إلى الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي أسس حزبا تقوم هويته على أصلين

1) الأوّل منهما هو فصل الدين عن السياسة باعتبارهما مجالين مختلفين الخلط بينهما يفسدهما الاثنين معا وهو لهذا السبب بالذات سمّى الحزب الذي أسّسه في عشرينات القرن الماضي « الحزب الحرّ الدستوري التونسي » ولم يضف إلى التسمية صفة إسلامي التي كانت دارجة أيامها في المشرق العربي حيث قضى جزءا من حياته، فلفظ الدستوري تحيل إلى معنى التوافق والتواضع الإنساني على نمط من الحكم وعلاقة محدّدة بين الحاكم والمحكوم يمكن أن تتغيّر لتغيُّر الظروف والمصالح، وهو ما ينأى بالحزب عن أن تكون له علاقة بالأحزاب الدينية

2) والثاني هو الاعتزاز بالذاتية الوطنية التونسية باعتبارها ذاتية مختلفة عن ذاتيات شقيقاتها كمصر أو الجزائر أو غيرهما رغم وجود بعض الروابط الأخرى كاللغة أو الدين لينأى بحزبه عن فكرة الأمة والأمميّة فالعمل السياسي يسعى إلى تحقيق مصلحة الوطن أولا وقبل كل شيء ولهذا السبب بالذات كان عنوان كتابه : تونس الشهيدة

هذا المعنى المدني المتكون من عنصري الفصل بين الدين والسياسة والشخصية التونسية ورثته الحركة الوطنية وورثه الحزب الدستوري وعلى أساسه بُنيت دولة الاستقلال حيث ألغيت الأوقاف ووُحِّد التعليم والقضاء وأُمِّمت الأراضي الزراعية والتنظيم العائلي وغيرها من المكتسبات التي سيتم التراجع عنها خفية وبصورة غير ظاهرة للعيان بعد تعيين محمد مزالي وزيرا أولا لتتواصل هذه الجريمة باعتماد سياسة سحب البساط في العهد السابق وهي التي أدت إلى أن أصبح التجمع صورة مشوهة ومسخا من الحزب الدستوري وتأملوا مليا حال الذين انتسبوا لِما سُمِّي طلبة التجمع الدستوري الديمقراطي الذين يقفون اليوم في صف دعاة الخلط بين الدين والسياسة المنخرطين في أجندة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين أعداء الحزب الدستوري المتمسك بمدنية الدولة والذاتية الوطنية التونسية

بقلم أنس الشابي