نت منذ أيّام متبضّعا (كما يقول إخواننا المشارقة) من بعض المساحات الكبرى و عند المغادرة دفعت و تسلّمت بقيّة نقودي فعددتها فوجدتها ناقصة. و عندئذ توجّهت إلى الشاب القابض و نبّهته إلى حقّي الناقص. لقد سلّمني بقيّتي ينقصها ثلاثون ملّيما دون أن يفاتحني في ذلك النقص فيعترف به أو ينبّه إليه أو يعتذر عليه كما تعوّد الكثير من زملائه على ذلك في مختلف المحلاّت القابضة بالبلاد التونسيّة. و أنا عاجز عن وصف النظرة التّي رشقني بها ذلك الشابّ و عاجز عن التعبير عمّا حملته عيناه نحوي من معاني الغضب و الاحتقار و الاستخفاف فقد بدوت في عينيه إنسانا مُسفّا و كائنا نشازا متخلّفا لا يليق بهذا الزمان و بهذا المكان و بهذه الثقافة و هذه الحضارة، رجلا جشعا لا يستنكف من الحطّ ّ من قيمته و مستواه فيطالب بثلاثين ملّيما حتّى و لو كانت من حقّه، فأين الشياكة و أين اللّباقة و أين « الفيانكة » و أين المستوى؟. و المؤسف أنّ التقييم نفسه للمشهد نفسه لا يأتيك من هذه المحلاّت بل يأتيك أيضا من زملائك الحرفاء في الصفّ وراءك الذّين يرثون لحالك و تسمع منهم تأفّفا و تذمّرا فأنت قد أضعت عليهم وقتا ثمينا و عطّلت عليهم مصالحهم و صنعت من الحبّة قبّة و أحدثت زوبعة في كأس و لو كانت لهم القدرة لأخذوك ساقا ساقا و يدا يدا و ألقوا بك خارج المحلّ و خارج المجتمع. لم يناقشني ذلك الشاب و فهم بعد طول نظر أنّي أطالب بحقّي و استمهلني لحظة ريثما يدخل على عرفه و يبحث جاهدا عن عشرين ملّيما و عن عشرة ملّيمات فلا يجد منها نظيرا في ما تجمّع عنده من مال البشر
و مثل هذا المشهد يتكرّر مع تاجر حيّنا أكثر من مرّة في اليوم و قد تعوّد الناس على التفريط في الملّيمات و العشرة و العشرين و قريبا الخمسين حتّى كدنا نفتقدها من السّوق و من منّا اليوم يسترجع حقّه عند اشتراء الخبز « الباقات » في المخابز و غيرها. رحم الله أبا عثمان عمرا بن بحر الجاحظ، إنّ المفرّط في القليل مفرّط في الكثير و إنّ التساهل مُورث للإسهال و لست خبيرا اقتصاديّا لأفسّر الضرر اللاّحق بنا معشر المستهلكين و لأفسّر الرّبح الفظيع من تراكم الملّيمات عند أرباب الأموال و لأفسّر انعكاس هذا التفريط اليسير في ظاهره على التضخّم المالي و انتفاخ الأسعار و لكنّي أحفظ مثل غيري الأمثال الشّعبيّة التّي تجمع « الفليّس مع الفليّس يولّي كديّس » و « من القطرة تتلمّ الغدران » و أنّ التاجر « ضحكولو تمدّ على طولو »…و أتذكّر مثل كلّ زائر لفرنسا مثلا أنّ جميع المحلاّت، كلّما كان من حقّك أن تسترجع سنتيما واحدا دُفع لك بابتسامة عريضة و رجاء لطيف بقضاء وقت طيّب و يوم سعيد. فتبصّروا يا أيّها المستهلكون المدعّمون للمستأسدين عليكم بحيائكم و حرجكم و ترفّعكم عن المطالبة بحقوقكم
الدكتور الهادي جطلاوي