بوفاة سالم بن عمر منذ ما يزيد على الأربعين يوما فقدت البلاد التونسيّة رجلا من أولئك الرّجال الذّين إذا غادروا السّاحة عزّ أن تجد لهم معوّضا و بديلا لا سيّما في هذه الأيّام العصيبة في بلادنا التّي اشتدّت الحاجة فيها إلى الرجال و شحّ الزمان بالكفاءات
لقد كان سالم بن عمر فارسا في ميدانه. فكان من المربّين و من كبار المديرين و المفكّرين و المصلحين المنفذّين في مجال التربيّة و التّعليم و البحث العلمي. و قبل أن تبهرك من سالم بن عمر نباهة و حذق و فلسفة و تدبّر، فإنّه يستقبلك بخلُق عظيم. و من عرف سالم بن عمر كثيرا أو قليلا لم تغب عنه الابتسامة الخاصة التّي يلاقيك بها. هي ابتسامة مزيج بين أدب الاستقبال و أدب التطلّع و السؤال، هي الابتسامة التّي تختبر مخاطبها تتطلّع إلى معرفته و معرفة حاله و مهجته حتّى إذا عرفته خاطبته بما يليق بمقامه. و ربّما كان هذا سرّا من أسرار لباقة سالم بن عمر في سياسة المخاطبة و المرافعة و المحاججة. ذلك أنّ الجلوس إلى سالم بن عمر هو الجلوس إلى صاحب رأي و نقد في إدارة التربية أو التّعليم أو الثقافة أو الاقتصاد أو السياسة يبسط الرّأي و يحلّله و يدافع عنه دفاعا ذكّيا مراعيا لآداب الحوار و محترما للرأي المخالف النّاقد للفكر و المنسّب له و المطوّر له. ذلك كان ديدنه و ذلك كان طبعه
لقد تقلّب سالم بن عمر في مسؤوليات إداريّة كثيرة. و لم يكن يغادر الفضاء الإداري الذي يديره دون أن يترك بصماته فيه. فكان الكاتب العام لكلّية الطبّ بسوسة و كان الكاتب العام لجامعة الوسط بسوسة و كان المدير العام لديوان الخدمات الجامعيّة بالوسط و كان مدير دار تونس بباريس و كان على اتّصال دائم بأعلى هرم السّلطة و لكنّه لم يكن معنيّا بأعلى الهرم و أرائكه و مكاتبه و امتيازاته. لقد كان سالم بن عمر رجل الميدان و رجل الإصلاح و كانت له القدرة العجيبة و الحظّ السّعيد على اقتلاع ثقة كبار الدّولة و تأييدهم و انقيادهم لمشاريعه الإصلاحيّة و لم يكن ذلك من باب الحبّ له بقدر ما كان من باب الإقرار بصدق طويّته و سداد رأيه و نافع تدخّله. و لم يكن سالم بن عمر منبطحا بين يدي أعلى الهرم بل كان مقنعا مفحما و لا تتعجّب إن رأيته أحيانا غاضبا متطاولا
و على هذا الأساس فإنّ القطاعات التّعليميّة و الإداريّة التّي حظيت بإشراف سالم بن عمر قد شهدت إصلاح الخبير الذّي يبدأ دائما بفهم واقع المجال و حصر نقائصه و دراسة سبل إصلاحه و اعتماد سبل مواجهته و تنفيذ مقرّراته فيه. و الحديث عن تفاصيل الإصلاح حديث طويل. و أنا أقف هنا لحظة عند الذي جمعني به. فقد كان سالم المسؤول الأوّل عن ديوان الخدمات الجامعيّة بالوسط في سوسة و المنستير و القيروان و المهديّة، و كان يكره أن يكون مجرّد مسؤول على إيواء الطالب و إطعامه، بل كان يريد أن يكون مؤسّسة طلاّبيّة ثقافيّة تغذّي الرّوح و الفكر قبل أن تغذّي البطون. و كنت عميدا لكليّة الآداب بسوسة و جرّني إليه جرّا و أنجزنا، معيّة الأستاذ عز الدّين الكناني، من النّدوات حول مفهوم جديد للخدمات الجامعيّة و حول أنشطة طلاّبيّة في شتّى فنون الرّسم و المسرح و الأدب ما لا عين رأت و لا أذن سمعت. فكان ذلك إنجازا عظيما لفلسفة جامعيّة حديثة و لم يكن ذلك إنجازا ميسورا
و قد سعى سالم بن عمر إلى إرساء ذلك الإصلاح الثقافي نفسه عندما وقع تكليفه بإدارة دار تونس بباريس. و قد كان له من العزم و من الصّبر و المثابرة ما جعله يحوّل دار تونس بباريس من مجرّد مبيت إلى دار للفنون الطلاّبيّة و عارضة مشرّفة للخصوصيّة التّونسيّة بباريس. و ما دمنا قد ذكرنا دار تونس فإنّه من اللاّزم أن نذكر المشروع الضخم الذّي أعدّه سالم بن عمر لإصلاح المباني و الهياكل المتداعية لدار تونس و إعادة تصميمها بما يراعي وظيفتها الفكريّة و الثقافيّة. و قد شاهدته من قريب في الإعداد الهندسي و جلب موارد التّمويل و الخروج بالمشروع من الوجود بالقوّة على الورق إلى الوجود بالفعل على أرض الواقع. وهو اليوم معلم من أجمل ما تعتدّ به المكاسب الوطنيّة بالخارج
كان لسالم بعد التقاعد مجلس في حيّنا في مقهى « حارس المرمى » (القول كيبر) و كان أصدقاؤه يعرفون له مجلسه هذا و يتردّدون عليه. و كان يجد في هذا المجلس خيطا رفيعا يربطه بالدّنيا و بالماضي و بمحبّة النّاس. و أنا اليوم أمرّ على مقهى « القول كيبر »، و أعرف أنّ طاولة سالم طاولة اليوم فارغة أو محتلّة بغيره و لكنّ عنقي تلتوي رغم أنفي إلى الطاولة التّي كان يجمع عليها قهوته و جرائده و هو منهمك في مكالمته الهاتفيّة. ألتفت و أمرّ فلا يناديني سالم و لا يستوقفني و لا يرغمني على الجلوس رغم حوائجي التّي خرجت من أجلها. و انقضى إلى الأبد جلوسنا إلى الكتب و خوضنا في مشاغل الدّار الفانية و ووقفاتنا بالسّوق و ببطائح المدينة
ليس من اليسير أن ننسى مثل هذا الرّجل، و في البلدان التّي تقدّر رجالها تلقّب مدارسها أو إداراتها أو ساحاتها بأسماء هؤلاء الرّجال تخليدا لذكراهم و سالم بن عمر من أجلّ المستحقّين لهذا المقام. و ذلك أضعف الإيمان
الهادي الجطلاوي
سوسة في 7 ديسمبر 2020
صورة تذكارية من تصوير عزالدّين الكناني و إهدائه