يبدو أننا نتجه نحو « معركة » او »حرب » حول : شرعية الشارع
لا خوف لا رعب الشارع ملك الشعب، هذا واحد من أهم وأكثر الشعارات تداولا في تونس منذ ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة، والطريف أنه لم يعد حكرا على «الغاضبين» و«المعارضين» لمنظومات الحكم المتعاقبة من أبناء الشعب، وإنما أصبح أيضا كلمة السر لقطاعات مهنية حساسة وحتى لعدد من «المسؤولين» و«الرسميين» من المضطلعين بوظائف سامية في الدولة وعلى رأسها بالتحديد
بين 14 و18 جانفي المنقضي وبالتزامن مع إقرار الحجر الصحي الشامل، شهدت عديد الأحياء الشعبية في العاصمة وداخل الجمهورية موجة من الاحتجاجات الليلية والنهارية وتم خلالها رفع هذا الشعار «الجذّاب» وتحولت الشوارع والساحات برمتها الى حلبة مواجهة بين المحتجين وأغلبهم من الشباب والأطفال وقوات الأمن وما نزال الى اليوم نكابد تداعيات هذه المواجهة بإقحام القضاء في المعمعة كما يقال
مباشرة بعد الاعتقالات وما اعتبرته منظمات المجتمع المدني وعديد القوى السياسية إفراطا في استخدام القوة نزلت كثير من القوى الشبابية غير المنتظمة الى شارع بورقيبة بالعاصمة للاحتجاج وانضمت اليها مكونات من المجتمع المدني وكيانات سياسية فيها كثير من «اليساريين» كما قالت الكثير من القيادات النقابية الامنية
وبعد جولة المواجهة و«الاستخدام المفرط للقوة» من قبل الأمن عاود المحتجون، شبابا غير منتظم وعشرات من المنظمات المدنية وكذلك القوى السياسية الكرّة أمام مجلس نواب الشعب في نفس يوم منح الثقة في الوزراء الجدد المثير للجدل يوم26 جانفي بالتزامن مع الذكرى 43 لأحداث 1978 الشهيرة، يومها عزف نواب الشعب وتحديدا الاغلبية عزفا منفردا نشازا وخلطوا أوراقهم ووضعوا أنفسهم أمام مأزق الشرعية الانتخابية وشرعية المؤسسات بما أن رئيس الجمهورية ما يزال الى حد اللحظة متحفظا على قبول الوزراء الجدد لأداء القسم في القصر الجمهوري كما ينص على ذلك الدستور بعد ان جرّح في عدد من الاسماء المقترحة في حضرة مجلس الأمن القومي
وتواصلت المراهنة على الشارع وتحول شارع بورقيبة السبت الماضي 30 جانفي الى ما يشبه الشوارع في عواصم الديمقراطيات العريقة، أجل نزل الشباب غير المنتظم – وهو منتظم وملتزم ربما اكثر من المنتظمين – ومعه نشطاء المجتمع المدني والاحزاب «اليسارية الملحدة» كما قيل، وكان الشارع بالفعل ملكا للشعب ومارست القوى الأمنية ضبط النفس كما تقتضيه مواصفات الأمن الجمهوري وخرجت صورة فريدة للديمقراطية التونسية هي بخلاف ما يروجه أعداؤها جديرة بالقراءة واستخلاص الدروس فما يجول بخاطر وعقل هذا الشباب أعمق من أن يكون تأثرا بالمال الفاسد أو التوجيهات أو الانحراف، لا مناص من الإصغاء اليهم وفهم منظومة تفكيرهم، أليسوا في المحصلة خريجو الثورة ونتاج عشر سنوات من الخيبات والانتكاسات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية؟
هذا المشهد لم يرق لبعض النقابات الأمنية التي حزمت أمرها ورفعت بدورها شعار «لا خوف لا رعب الشارع ملك الشعب»، بل أكثر من ذلك تجمعت أمام ولاية صفاقس الاثنين الماضي وتبنت الثورة وخصوصا تلك اللحظة الفارقة فيها التي قلبت التوازنات والمعادلات وسرّعت بسقوط النظام في 2011 ، ورغم عدم وجاهة وخطورة ما جاء على لسان عدد من النقابيين الأمنيين الذين كالوا التهم السياسية الخطيرة للمحتجين وتحدثوا بألسنة الساسة أكثر من ألسنة الأمن الجمهوري فإن المسألة الأبرز هي مراهنة الأمنيين بدورهم على الشارع وافتكاكه بالقوة –وهو أمر يجيزه القانون عندما يتم في كنف القانون- والاستقواء بشرعيته في وجه الشرعيات الأخرى
هذا الشدّ والجذب سيغذي بطبيعة الحال «المعركة» على شرعية الشوارع وقد ندخل في ما يمكن ان نسميها «حرب شرعية الشوارع» التي كانت تاريخيا من نصيب المحتجين من ابناء الشعب الكادح في مواجهة النظام وقواته الأمنية
وحتى القوى السياسية الموجودة في المنظومة المنبثقة عن انتخابات 2019 بشقيها الرئاسي والتشريعي في الحكم والمعارضة، اصبحت تدرك أن الشرعيات جميعها قد اهترأت، الانتخابية منها والمؤسساتية والتاريخية وغيرها، وبالتالي الحل في ترك الحيل والاستقواء بالشارع تحسبا للمحطات السياسية القادمة
في هذا السياق كان الحزب الدستوري الحر أول من نزل الى الشارع للاعتصام امام مقر فرع التنظيم العالمي لعلماء المسلمين بالعاصمة وفي ساحة باردو قبالة البرلمان، كما انضم نواب الكتلة الديمقراطية وعديد النواب المستقلين الى المحتجين امام البرلمان وحتى في شوارع العاصمة
وهاهو رئيس الجمهورية يمارس دون الإفصاح عن ذلك كعادته انخراطه في حرب شرعية الشوارع والساحات لتعزيز شرعيته الانتخابية التي تأسست في الأصل ايضا على شرعية الشوارع والمناطق الشعبية وبعد ظهوره في منطقة محل سكناه بمنطقة المنيهلة الأسبوع الماضي والتحدث الى الأنصار ينزل مجددا الى شارع بورقيبة مساء الثلاثاء 2 فيفري ويتجول فيه قبل الالتحاق بمقر وزارة الداخلية
صحيح أن ساكن قرطاج كان محاطا بالأمنيين أكثر من المواطنين في الشارع لكن الرسائل عديدة ومهمة وصوب كل الجهات و«الأطراف» كما يقول سيادته
انه في هذه الإطلالة الى جانب القوى الحاملة للسلاح بمختلف مكوناتها وأجهزتها بما في ذلك الداخلية التي يتولاها اليوم بالنيابة رئيس الحكومة الذي دخل الصراع معه منعرجا كبيرا وخطيرا بعد التحوير الحكومي
إنه كذلك في حضرة الشارع، في لقطة يصعب أن نرى فيها رئيس مجلس نواب الشعب على سبيل المثال الذي لم يخل احتجاج شعبي من الشعارات المناوئة له والمطالبة برحيله وتنحيه عن رئاسة البرلمان بالخصوص
إنه في النهاية يستمع ويسكت –والسكوت علامة الرضا كما يقال –على الشعارات المطالبة بحل البرلمان الذي فقد شرعية وجوده وفق المتابعين وتحول الى حلبة للصراعات العبثية دون الوفاء بالوظائف الأصلية المناطة بعهدته وأهمها استكمال المؤسسات الدستورية وعلى رأسها المحكمة الدستورية التي كان بالامكان ان يمثل وجودها الملاذ لحسم مسألة الشرعية وعدم الذهاب في الاستقواء بالشوارع واعلان حرب الشرعية الجيدة فيها
بقلم: مراد علالة