رسالة إلى الدساترة الأحرار: أنقذوا حزب الدستور إذا أردتم إنقاذ تونس

بات واضحا أن أغلبية التونسيين حسموا أمرهم منذ فترة مع المنظومة السياسية القائمة، فنتائج عشر سنوات من حكمها يعانيها كل المواطنين التونسيين، وإن بدرجات متفاوتة وبأشكال مختلفة، في معيشهم اليومي ويرونها ماثلة في كل مشاهد حياتهم وفي وضع دولتهم ومؤسّساتها وهي تفقد كل يوم المزيد من قدراتها، وفي حال البلاد عامة وهي تغرق في القبح والتلوّث بكل أصنافه، وفي استفحال الوباء مؤخرا ليحصد الأرواح فلا تنجو عائلة تونسية من فواجعه وآلامه، وفي المشاكل الاقتصادية التي صار بفعلها نسبة هامة من التونسيين عاجزين عن توفير الضروريات، هذه الحلقة الأخيرة أسقطت آخر ورقة توت عن عورات هذه المنظومة الفاشلة والعاجزة والتي انتهت صلاحيتها ، كان السؤال يدور حول مدى قدرة الفرد على التصدي لهذه المنظومة التي نجحت في التمكين لنفسها وفي كسب السلطة والنفوذ الضروريين لتحصين نفسها ضد أي حركة احتجاجية. وكان المأزق بين ضرورة العمل المنظم والمهيكل من جهة وسقوط مجمل التنظيمات السياسية الموجودة على الساحة حاليا في امتحان الوطنية والكفاءة. فاليسار بمختلف تلويناته منقطع الصلة بالواقع وبما يقتضيه من تنازل أحيانا عن الوثوقية الإيديولوجية، وأحزاب « الإصلاح » عجزت عن كل إصلاح بسبب تشرذمها وانتفاخ أنا « زعمائها »، أما حزب الدستور الذي كان يمكن أن يمثل معارضة مجدية وقادرة على الأقل على تعطيل المشروع الإخواني فإن أسلوب « زعيمته » في إدارة الصراع السياسي واستيلاءها المطلق عليه قد أساء إليه كثيرا وحال دونه ولعب الدور الذي ظل يلعبه تاريخيا في تونس. فما العمل؟

طرح كثير من الباحثين منذ مطلع القرن الواحد والعشرين سؤالا حول مدى قابلية الأحزاب السياسية الإيديولوجية للبقاء والاستمرار في ظل الديموقراطيات الثابتة والمهيكلة وحتى في ظل الديموقراطيات الانتقالية. ويعكس هذا السؤال في الحقيقة واقعا يشهد بنفور واسع من الأجيال الجديدة وخاصة من الشباب من العمل الحزبي القائم خاصة على مرجعية إيديولوجية وعقائدية متسمة بالانغلاق والأصولية وعلى تنظيمات كليانية تنذر بالاستبداد في حال الوصول إلى السلطة. ورغم التباين في قراءة دوافع هذه الظاهرة التي صارت لافتة لا في الديموقراطيات التقليدية فحسب بل في مختلف مناطق العالم بمختلف أنظمتها ومعبرة عن حالة الاهتزاز التي تعيشها الديموقراطية نفسها، وفي تحديد انعكاساتها على واقع العمل السياسي المنظم والمهيكل حزبيا عادة، فإن الاتفاق حاصل على أن هذا الانصراف يضع العمل السياسي أمام مأزق حقيقي، فهو بطبيعته عمل جماعي تشاركي وغير قادر على النهوض بوظائفه إلا بواسطة هاتين الخاصيّتين وهو من جهة أخرى صار يرفض لأسباب من بينها هاتان الخاصيتان تحديدا

يقوم التوجه العام المرصود منذ أواخر القرن الماضي وبعد الانهيارات التي عرفتها الأحزاب الكليانية الكبرى في الاتحاد السوفياتي سابقا وفي أروبا الشرقية، على مبدأين: مبدأ « الاحترافية السياسية » وهو المبدأ الذي يعني عمليا أن العمل الحزبي لا يقتضي بالضرورة « وحدة إيديولوجية » فالجامع بين المشتركين ليس القالب الفكري الواحد الذي يفترض أن ينخرط فيه الجميع، بل يقتضي خاصة وجود برنامج عمل مشترك وخطة يتفق عليها لتحقيق البرنامج ضمن آجال مضبوطة في صيغ مدروسة بكل دقة واحترافية، حتى إذا اقتنع أي شخص بالبرنامج انخرط فيه دون أن يكون ملزما بأي شكل من أشكال « الانتماء » العقائدي الذي قد يتعارض مع قناعات الفرد الشخصية أو مع توجهاته ، ودون أن يكون ذلك الانخراط « نهائيا » . وهي إن شئنا صيغة قريبة من عمل جمعيات المجتمع المدني. أما المبدأ الثاني فهو « زعامة الفريق » بديلا للزعيم الفرد، فالفريق الاحترافي الذي يضع البرنامج والذي يضبط آليات تحقيقه ويوفر مقتضيات العمل من أجل تحقيقه والذي يضع الخطة المناسبة لنجاح البرنامج هو « الزعيم » الفعلي من جهة، وهو ليس زعيما « مدى الحياة » بل هي زعامة متصلة ببرنامج العمل المحدد وتنتهي بتحقيقه ليحل محل الفريق-الزعيم فريق جديد له برنامج جديد وخطة عمل جديدة

إذا نظرنا في واقع تونس الراهن في ضوء هذه التصورات من جهة وأخذا في الاعتبار حقيقة الموقف العام السائد من مجمل أحزاب « العشرية البائسة » من جهة ثانية، وما تؤكّده في كل مرة استطلاعات الرأي التي تكشف عن توجهات النوايا الانتخابية من جهة ثالثة افترضنا أن الحزب الدستوري الحر قابل، بشروط وضمن خطة معينة، لأن يكون رهانا من الرهانات المحدودة المتاحة اليوم أمام التونسيين للخروج من المأزق ولوضع حد لهذه المنظومة السياسية البائسة

يخطئ كثيرون إذ يتصورون أن هذا الحزب هو حزب عبير موسي، بل إن عبير في نظري قد استولت على حزب له تاريخ كبير أكبر منها بكثير ومن طموحاتها الزعاماتية الفردية ومتجذر في الوعي الوطني الحديث بصفته الحزب الذي قاد معركة التحرير أولا و »تزعم » يرنامج بناء الدولة الوطنية ثانيا، ومن المهين لهذا الحزب وتاريخه ولكل التونسيين الذين انخرطوا فيه وتبنّوا برنامجه أن يحصر اليوم في شخص، مهما كان اسمه، ثم إن حزب الدستور التاريخي عانى في أكثر من مناسبة عبر تاريخه الطويل من ظاهرة استيلاء « الزعيم » الفرد عليه وقد آن الأوان لمن يعتبرون أنفسهم « دساترة » أصيلين أن يتعظوا من التاريخ وأن يقاوموا هذه « الزعامة » الفردية المرضية وأن يستبدلوها « بزعامة الفريق » ، وإني إذ أقول هذا فإني لا أدعوا إطلاقا إلى استبعاد عبير موسي بل إني أرى أنها إمرأة ذات فعالية كبيرة وهي ولا شك قادر ة على الإفادة لو حررت نفسها من التضخم المرضي للذات وقامت في ما بينها وبين نفسها بنقد ذاتي يخلصها من الانحراف الاستبدادي لحزب التجمع، حتى تتمكن من الانخراط في ما أسميناه بزعامة الفريق. ثم إن حزب الدستور التاريخي هو من أكثر الأحزاب تماشيا مع « طبيعة » التونسي، أو إن شئنا مع « الشخصية القاعدية » للتونسي الوسطي، المعتدل والذي ينفر من كل أشكال التطرف يمينا ويسارا ، والذي يميل كذلك إلى ما هو إجرائي ونفعي بعيدا عن « تعقيدات  » الإيديولوجيات ورهاناتها الطوباوية. وهذا مما يمكن الاستفادة منه وتوظيفه من أجل « برنامج عمل احترافي » حقّا قادر على استيعاب نسبة كبيرة من التونسيين يخرج من « المركزية الموسوية » التي جعلت هدف حزب الدستوري الحر منحصرا في التصدي للمشروع الإخواني. وهذا هدف وإن كانت له وجاهته ويشترك فيه كثير من التونسيين فإنه يتعارض تماما مع مبدإ الاحترافية السياسية الذي يقوم على برنامج بديل ومتكامل يندرج ضمنه هدف التصدي للمشروع الإخواني بصفته أحد أهدافه، ويحدد خطة تحقيقه ويوفر الآليات الإجرائية والوسائل لذلك التحقيق

إن البرنامج المقصود في هذا السياق هو برنامج يضع في مواجهة المشروع الإخواني الذي ينظر إلى تونس باعتبارها مجرد بوّابة للمشروع الأكبر وهو إقامة دولة الخلافة، مشروعا وطنيا تونسيا ضاربا في أعماق التربة الوطنية، يضع مصلحة تونس ودولتها وشعبها فوق كل اعتبار، ويتخذ من المدنية والتقدم والتطور وبناء اقتصاد وطني قادر على حماية نفسه وإقامة عدالة اجتماعية . وهو برنامج قابل للأن يستقطب ما يحتاجه هدف الإنقاذ الوطني من كفاءات ومن موارد بشرية ومادية ولوجيستية، كما يمكنه الاستفادة من « التقليد الدستوري » الذي فتح هذا الحزب تاريخيا أمام كل الحساسيات واستوعبها لأنه لم يكن حزبا « إيديولوجيا » بالمعنى العقائدي وإنما كان أقرب إلى ما أشرنا إليه سابقا بالسياسة العملية النفعية، أو إلى البراغماتية بمفهومها الموضوعي. إذا أراد الدساترة أن يكون لهم دور تاريخي في المعركة من أجل إنقاذ تونس استئنافا لدور حزب الدستور منذ الثعالبي إلى بورقيبة في معركة التحرير وفي بناء الدولة الوطنية فعليهم أن ينقذوا حزب الدستور من انحرافات « الزعامات » الفردية المرضية 

بقلم الدكتورة زهية جويرو