رئيس الجمهورية في ضيافة القاهرة…تحقيق الأولويات الوطنية وترتيب البيت العربي ما يزال ممكنا

إن الزيارة الى مصر في هذا التوقيت بالذات هي في تقديرنا زيارة سياسية بامتياز رغم بعض الجوانب الاقتصادية التي ترافقها وذلك بالنظر الى السياق المحلي والاقليمي وموازين القوى والتطبيع بين العواصم العربية
*تطبيع العلاقات وتنويعها وتطويرها على قاعدة المصلحة المشتركة وعلى أساس الندية وبناء على الثوابت هو أقوم المسالك في حلحلة الأزمة الداخلية وترتيب البيت المغاربي والعربي المنهك والممزق والمعطل
*الحقائق باتت جلية وأهمها أن صفحة الإسلام السياسي لم تجلب سوى الشر بكل المعاني وعادت بالوبال ليس على شعوبنا فقط وإنما على شعوب العالم ومكاسب الإنسانية

******

شرع رئيس الجمهورية قيس سعيّد في زيارة رسمية إلى جمهورية مصر العربية بداية من يوم أمس الجمعة بدعوة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وتندرج هذه الزيارة كما جاء في الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية : في إطار ربط جسور التواصل وترسيخ سنّة التشاور والتنسيق بين قيادتي البلدين فضلا عن إرساء رؤى وتصورات جديدة تعزز مسار التعاون المتميز القائم بين تونس ومصر بما يُلبّي التطلعات المشروعة للشعبين الشقيقين في الاستقرار والنماء

في العادة، تمرّ مثل هذه العبارات مرور الكرام فهي لا تخرج عن دائرة اللغة الخشبية الرسمية البيروقراطية والمحاذير الدبلوماسية البروتوكولية في مثل هذه المناسبات ومع «المقامات» رفيعة المستوى، غير أننا اليوم أمام متغيرات من العيار الثقيل ودلالات نوعية للزيارة وطنيا وإقيلميا ودوليا بطبيعة الحال ويحق لنا أن نرفع سقف الانتظارات منها بعد طول انتظار 

هي الزيارة الرسمية الثانية التي تحصل في ظرف وجيز بعد زيارة طرابلس الغرب يوم 17 مارس المنقضي عشية عيد الاستقلال في تونس ولقاء المسؤولين الليبيين الجدد بالتوازي مع بداية انفراج الأوضاع السياسية في الشقيقة ليبيا في انتظار التطور الايجابي للأوضاع هناك الذي عرف منطلقه من أرضنا. وكما هو معلوم فهي أول زيارة من نوعها لرئيس تونسي إلى ليبيا منذ 2012 ومن نكد الدهر أن يغيب سفير تونس عن هذا البلد الشقيق عديد السنوات وتحديدا منذ مرحلة العبث التي عرفتها سياستنا الخارجية زمن الترويكا بقيادة تنظيم النهضة وولوج محمد المنصف المرزوقي الى القصر الرئاسي

واليوم يؤدي قيس سعيّد زيارة مطوّلة الى القاهرة تمتد الى ثلاثة ايام، انطلقت في نفس اليوم الذي أحيت فيه بلادنا عيدا وطنيا لايقل أهمية عن «الاستقلال» وهو عيد الشهداء (9 أفريل 1938)، والزيارتان تؤسسان لدخول ساكن قرطاج فعليا في مجال صلاحياته التي لا يكفلها الدستور فقط بل يتطلع اليها طيف واسع من التونسيين الذين يرون أن تطبيع العلاقات وتنويعها وتطويرها مع الأشقاء والأصدقاء على قاعدة المصلحة المشتركة وعلى أساس الندية وبناء على الثوابت المبدئية هو أقوم المسالك في حلحلة الازمة الداخلية وانقاذ التجربة التونسية وكذلك ترتيب البيت المغاربي والعربي في زمن التكتلات الجهوية والاقليمية والدولية ووسط تحديات أمنية وصحية واجتماعية واقتصادية وسياسية لا قدرة على بلد على تخطيها بمفرده بل بمفرده وهو منهك وممزّق ومعطّل في الداخل

لقد حان الوقت للدخول في جوهر الموضوع وتطبيق مقولات من قبيل أنه ثمة «شعب واحد في دولتين» وان «أمن تونس من أمن ليبيا» و«فتح فصل جديد من التعاون بين ليبيا وتونس» و«إعادة العلاقات لسابق طبيعتها في كافة المستويات» وغيرها من الشعارات التي هي صحيحة فعلا لكن تفعيلها لم يعد يحتمل التأجيل

لقد حان الوقت ايضا لجلاء الموقف من التطرف والارهاب والانحياز الواضح والجريء للقوى المدنية والوطنية التي تبني الأوطان ولا تدمّرها وتحفظ الأرض والعرض ولا تتاجر بالدين وتنتصر للديمقراطية حتى وإن تعثرت على دربها أو شابتها الأخطاء فالمدنيون والحداثيون لا يتنكرون لإنسانية الانسان وللكرامة المتأصلة في بني البشر وهم أقل انحناء للقوى النافذة وأقل احترافا لبيع الذمم والأوطان.
إن زيارة رئيس الجمهورية الى مصر العربية جدّ هامة في هذا السياق ومن حقنا أن نراهن على الأقصى وهو عودة المياه الى مجاريها مع الشقيقة سوريا وإعادة العلاقات العادية معها بما أن موازين القوى بصدد التغيير والحقائق باتت جلية وأهمها أن صفحة الاسلام السياسي لم تجلب سوى الشرّ بكل المعاني الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية والحضارية وعادت بالوبال ليس على شعوبنا فقط وانما على شعوب العالم ومكاسب الانسانية

إن الزيارة الى مصر في هذا التوقيت بالذات وبعد اربع سنوات من زيارة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي عام 2015 والتي كانت «عادية» ولم يتمكن بعدها من استضافة نظيره المصري في تونس وتسارع الأحداث حينها دوليا وعربيا مع احتدام الاوضاع في ليبيا واليمن وسوريا، ومحليا بسبب «ورطة» التوافق في الحكم مع النهضة، هي في تقديرنا زيارة سياسية بامتياز رغم بعض الجوانب الاقتصادية التي ترافقها

إن زيارة مصر تأتي بعد ايام قليلة من زيارة الأمين العام لجامعة الدول العربية الى تونس وعودة الحديث عن الجامعة وعن العرب وقمتهم المنتظرة في الجزائر وهي بخلاف زيارة 2015 ايضا ترافق تطورا غير مسبوق في الحالة الليبية منذ 2011 وتغير موازين القوى في سوريا وبالخصوص تغيّر أو لنقل انقلاب الأمور رأسا على عقب في المنطقة في علاقة بالقوى العربية النافذة وتطبيع العلاقات بين عديد العواصم التي كانت في قطيعة وحتى في حرب عبثية اعلامية واقتصادية عسكرية

إن ضيافة رئيس الجمهورية في القاهرة بعد زيارة طرابلس يعيد المراهنة على تونس ودورها في تحقيق الأولويات الوطنية وترتيب البيت المغاربي والعربي الذي ما يزال ممكنا متى توفرت الإرادة لذلك واستفدنا من دروس الماضي وتسلّحنا بالسيادة الوطنية واستقلال القرار الوطني وصمدنا في وجه تجار الدين وجميع أعداء الانسانية في الداخل والخارج

بقلم مراد علالة