لا تنازل عن ثوابت السيادة.. لا مناصّ من وضوح الرؤية
* إن التدخل الخارجي والاملاءات الخارجية تصبح يسيرة في وجود جبهة داخلية مهتزة ووضع سياسي متعفن ومشهد دستوري ومؤسساتي منخرم ومعطّل ووضع اقتصادي واجتماعي متأزم و«قيادات» منتصبة لحسابها الخاص قد تكون نواياها طيبة لكن إدارة الدول لا تكون بالنوايا الطيبة فقط
* من حق مسؤولي الدول أن يتفنّنوا في صياغة أخبار انشطتهم وحتى جعلها على المقاس، لكن الاجتهاد في البلاغة لا يمكن أن يعكس اختلافا في المواقف وفي نقل ما يمكن اعتباره «محاضر جلسات» حيث يصعب جدا أن ينسب طرف لطرف آخر كلاما لم يقله أو موقفا لم يعبّر عنه
*إن أقوم المسالك لتحصين البلاد ضد التدخل الخارجي وضد أي محاولة لـ«إنقاذ» من تسبّب في أزمتها الراهنة وإفلاته من المساءلة والعقاب وبيان جدّية من يروّج بالفعل لتصحيح المسار بعيدا عن الاستئثار بالحكم والانفراد بالرأي هو توضيح الرؤية ووضع الترتيبات الدقيقة
********
أطنب الكثيرون في التعليق على زيارة وفد رسمي أمريكي رفيع المستوى إلى بلادنا يوم الجمعة 13 أوت 2021، وهذا أمر طبيعي باعتبار دور هذه القوة العظمى في العالم وسعيها الدائم لرسم مربع تحرك الشعوب والأمم علاوة على مراهنة بعض الداخل للأسف على هذا الدور لتحريك المشهد وبعثرة الأوراق وتسجيل النقاط ولو على حساب الشعب والوطن، على أنّ الثابت الوحيد الذي يجب أن نتمسك به هو أن المرور بالقوّة في الداخل لفرض أمر واقع ومعادلات بعينها، هو أمر مرفوض بنفس حدّة رفض المرور بالقوة من الخارج ولا تنازل بالتالي عن ثوابت السيادة الوطنية ولا مناص من توضيح الرؤية ورسم معالم الطريق الصحيح
إن أسس العلاقات الدولية واضحة وجلية وقد كانت تونس على مرّ العقود حريصة على «عدم الانحياز» وعلى النأي بالنفس عن «التدخل في الشؤون الداخلية» للدول الشقيقة والصديقة وكانت تتفاعل بجدية وندية ـ نسبية بطبيعة الحال ـ مع الفاعلين الدوليين ضمن معادلة المصلحة المشتركة التي كانت ايضا مختلة في عديد الحالات بحكم موازين القوى لكن هذا لا يمنع من التمسك باستقلال القرار الوطني
وكما هو معلوم فإن التدخل الخارجي والاملاءات الخارجية يصبحان يسيرين في وجود جبهة داخلية مهتزة ووضع سياسي متعفن ومشهد دستوري ومؤسساتي منخرم ومعطّل ووضع اقتصادي واجتماعي متأزم و«قيادات» منتصبة لحسابها الخاص قد تكون نواياها طيبة لكن إدارة الدول لا تكون بالنوايا الطيبة فقط والشعارات الرنانة والجمل الثورية والأمثلة الشعبية والأبيات الشعرية وانما بمشاريع الحكم الواضحة المتينة المتكاملة التي تستند فيما تستند إليه، نقاط القوة في الداخل وحسابات الخارج عندما تلتقي المصالح
ولعل هذه الاكراهات وهذا المناخ غير السليم هما اللذان يتسبّبان في إطلاق صيحات الفزع كلما زار وفد رفيع المستوى بلادنا أو حصل مجرّد اتصال هاتفي بين حكامنا وهذا المسؤول الدولي أو ذاك تماما كما حصل قبل أيام بمناسبة الاتصال الهاتفي بين الرئيسين التونسي قيس سعيد والفرنسي إيمانوال ماكرون والذي تكتمت عليه قرطاج ونشرت الرئاسة الفرنسية ما أرادت إيصاله لنا، ولغيرنا
وتواترت الاتصالات والرسائل الشقيقة والصديقة وتهاطلت المساعدات الصحية والطبية لدعمنا في حربنا على وباء الكورونا، ولم تخل جميعها من «الشحن» السياسي الواضح والمستتر على الأقل استنادا الى المقولة الشعبية : ما ثماش قطوس يصطاد لربي
ودون الافراط في «التحاليل» المجانبة للصواب والمبالغة في تقدير ما نحن فيه، فإن من حق مسؤولي الدول أن يتفنّنوا في صياغة أخبار انشطتهم وحتى جعلها على المقاس، لكن الاجتهاد في البلاغة لا يمكن أن يعكس اختلافا في المواقف وفي نقل ما يمكن اعتباره «محاضر جلسات» حيث يصعب جدا أن ينسب طرف لطرف آخر كلاما لم يقله أو موقفا لم يعبّر عنه لذلك فإن القول بوجود بون شاسع وحتى تناقض بالنسبة الى البعض بين ما صدر عن رئاسة الجمهورية التونسية وبيان المتحدّثة باسم مجلس الأمن القوميّ الأمريكيّ عن زيارة مسؤولين سامين في الإدارة إلى بلادنا لا يستقيم، بل بالعكس من ذلك، يكمّل أحدهما الآخر وما لا نجده هنا نجده هناك في انتظار بقية التفاصيل خاصة بشأن ممثلي «المجتمع المدني» الذين قابلوا الأمريكان
ويتفق المصدران في الإقرار بوجود رسالة خطية موجّهة إلى رئيس الدولة من قبل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أن هذا الأخير يتابع تطور الأوضاع في بلادنا، وهو يكنّ كل الاحترام لتونس ولرئيسها وأن الإدارة الأمريكية تعلم حجم ونوعية التحديات التي تواجهها تونس لا سيّما منها الاقتصادية والصحية وأن الولايات المتحدة الأمريكية متمسّكة بصداقتها الاستراتيجية مع تونس وتدعم المسار الديمقراطي فيها، وتتطلّع إلى الخطوات المقبلة التي سيتخذها رئيس الجمهورية على المستويين الحكومي والسياسي
وطبيعي في باب تبرئة الذمة أن تؤكد رئاسة الجمهورية التونسية على أن قيس سعيد أكد خلال اللقاء «بأن التدابير الاستثنائية التي تم اتخاذها تندرج في إطار تطبيق الدستور وتستجيب لإرادة شعبية واسعة، لا سيّما في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية واستشراء الفساد والرشوة» وحذّر من «محاولات البعض بث إشاعات وترويج مغالطات حول حقيقة الأوضاع في تونس»، وبين أنه «لا يوجد ما يدعو للقلق على قيم الحرية والعدالة والديمقراطية التي تتقاسمها تونس مع المجتمع الأمريكي» وخلص رئيس الجمهورية إلى أنه : تبنى إرادة الشعب وقضاياه ومشاغله ولن يقبل بالظلم أو التعدي على الحقوق أو الارتداد عليها، مؤكّدا على أن تونس ستظل بلدا معتدلا ومنفتحا ومتشبثا بشراكاته الإستراتيجية مع أصدقائه التاريخيين
ولأن الغرب بشكل عام والأمريكان بشكل خاص لا يحبون الاطالة في النثر فقد قالوا لنا أن الرئيس الامريكي أكّد في رسالته «دعمه الشخصيّ ودعم إدارته ونائبته للشعب التونسيّ»، وحثّ «على عودة سريعة إلى مسار تونس كديمقراطيّة برلمانيّة» وفي التفاصيل تم التباحث «حول الحاجة الملحّة إلى تعيين رئيس حكومة مكلّف ليشكّل حكومة مقتدرة بإمكانها معالجة الأزمات» بما من شأنه أيضًا أن : يفسح المجال لعقد حوار شامل للجميع حول الإصلاحات الدستوريّة والانتخابيّة المقترحة استجابة للمطالب التي أعرب عنها العديد من التونسيّين لتحسين مستويات المعيشة وإرساء حوكمة نزيهة ناجعة شفّافة
أين الاختلاف إذن في الخطاب التونسي والأمريكي، أو حتى بين الخطاب الرسمي التونسي الصادر عن رئيس الجمهورية وخطاب عدد من الحكام العرب والأجانب الذين دخلوا على خط الأزمة التونسية؟
إن السيادة الوطنية خط أحمر، ويصعب جدا على الادارة الأمريكية أو غيرها أن تتوهم أو تراهن على المرور بقوة في بلادنا ليس لانتفاء المصلحة لمن هو في الحكم اليوم ربما، ولكن لوجود رصيد تاريخي ووعي وطني في المجتمع السياسي والمدني بشكل رئيسي ووجود شخصيات وكيانات سياسية ومنظمات وطنية هي صمام أمان هذا الوطن
إن أقوم المسالك لتحصين البلاد ضد التدخل الخارجي وضد أي محاولة لـ«إنقاذ» من تسبّب في أزمتها الراهنة وإفلاته من المساءلة والعقاب وبيان جدّية من يروّج بالفعل لتصحيح المسار بعيدا عن الاستئثار بالحكم والانفراد بالرأي، هو توضيح الرؤية ووضع الترتيبات الدقيقة ضمن برنامج مرحلي أو خارطة طريق أو اي شيء جدّي آخر واضح المقاصد والمعالم، المهم الخروج من المأزق الدستوري ومطبّات الفصل 80 وتشكيل حكومة وعلاج فوري للوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي والذهاب الى انتخابات حرة ونزيهة وشفافة نوفّر لها شروط النجاح ونؤمّن لها الظروف الموضوعية والإطار التشريعي الملائم بشراكة مع المجتمع المدني والقوى السياسية الوطنية التقدمية
بقلم: مراد علالة