حامل للباكالوريا، ولا يعرف المعرّي

الوضع الوبائي أضرّ كثيرا بالبلاد، في جميع المجالات. وكثيرا ما نسمع بعض المسؤولين يُردّدون بأن تونس ليست معزولة عن العالم، وأن كافة بلدان الكرة الأرضية تضرّرت كثيرا من الكورونا ومن رواسبها. هذا الكلام صحيح في ظاهره، غير أنّه يُخفي مسؤولية الدولة في الطريقة السيّئة التي عالجت بها الجائحة، والتي بسببها نجد المضارّ التي لحقت الشعب التونسي أخطر بكثير من تلك التي لحقت بأغلب الشعوب الأخرى

المضار اقتصادية واجتماعية وصحيّة، ويكفي في هذا المضمار أن نُحصي عدد الموتى والمصابين بالفيروس، وعدد الإضرابات المُسجّلة في جميع القطاعات، وكيفية تعامل المواطنين مع القرارات التي تتّخذها الحكومة من حين لآخر لمعالجة الأزمة الوبائية، كي نعرف كم أن هذه المعالجة كانت ارتجالية وعشوائية

لكن المضرّة الكبرى التي نادرا ما يتعرّض لها الملاحظون هي تلك التي لحقت بتلاميذنا وبالتعليم عموما

فالتعليم في تونس تضرّر كثيرا خلال السنوات العشر الأخيرة لأسباب عديدة منها عدم الاستقرار في منصب الوزير وفقدان برنامج إصلاحي ورؤية على المدى الطويل ولا حتى المتوسط، ومنها أيضا مواقف نقابات التعليم الأساسي والإعدادي والثانوي التي عطّلت كثيرا السير الطبيعي للدروس، من ذلك الإضرابات العديدة ومقاطعة اصلاح الامتحانات، وها هي تُهدّد بمقاطعة العودة المدرسية القادمة. كل ذلك قلّص بشكل ملموس مستوى التعليم عموما ومستوى التلاميذ. ولا يفوتنا أيضا التذكير بالمحاولات المٌتكرّرة لتسييس التعليم من قبل الأساتذة الإسلاميين المُتطرفين والتكفيريين، والذين كثيرا ما نسمع بتجاوزاتهم للبرامج الرسمية ليقوموا بأدلجة التلاميذ خدمة لأيديولوجيتهم ولحزبهم. ولقد انجرّ عن ذلك لجوء عديد الأولياء إلى المدارس والمعاهد الخاصّة أو الأجنبية، رغم التكاليف المجحفة للتعليم الخاص

لكن كيفية تعامل الدولة مع مجال التعليم زمن الوباء الذي انتشر في ربوعنا خلال السنة الدراسية الحالية والسنة الدراسية الماضية زادت الطين بلّة، وقضت على ما بقي من أمل في أن تقوم المدرسة بدورها الطبيعي في تربية الناشئة وفي تثقيف التلاميذ وتلقينهم العلوم والمهارات وحثهم على التفكير. ولنا أن نتساءل أيّ تحصيل علمي لتلامذتنا في هاتين السنتين؟

من حيث الكمّ تقول الإحصائيات إن تلاميذ المدارس العمومية في كامل الجمهورية حضروا هذه السنة 70 يوما من الدراسة الفعلية، في حين أن تلاميذ المدارس الخاصة والمدارس الأجنبية حضروا 180 يوما فعليّا، وهو العدد العادي لأيام الدراسة. أي أن تلميذ المدارس الخاصّة والأجنبية حصل كميّا على مرّتين ونصف ما حصل عليه تلميذ المدارس العمومية من علوم ومعرفة. ولقد اعتمدت طبعا هذه المدارس، إلى جانب الدروس الحضورية، على وسائل التعلّم عن بعد في جزء هامّ من أيام التدريس، وهي وسائل لا يستطيع توفيرها لا الدولة ولا التلاميذ

التخفيض في ساعات الدراسة مرّتين ونصف، ولمدّة سنتين مُتتاليتين، سوف يكون له دون شك تأثير سلبي خطير على التكوين العلمي للتلاميذ. وسيذكر التاريخ بعد سنوات أن هناك جيلا من التونسيين تكوينُه مُتواضع ومعارفُه سطحيّة. وذلك دون اعتبار التأثير النفسي الذي أصاب بالخصوص صغار السن وتلاميذ السنوات الأولى من التعليم الابتدائي الذي سيجدون صعوبة في التأقلم مع الدراسة كامل أيام الأسبوع في السنة القادمة بعد أن تعوّدوا على الذهاب إلى المدرسة ثلث الوقت

زد على ذلك الاختيارات التي ذهبت إليها وزارة التربية عند تقليصها لساعات الدراسة وذلك بالتقليص في محتوى البرامج بطريقة تبدو ارتجالية، إذ تمّ حذف أجزاء منها، بعضُها على غاية من الأهميّة. فهل يُعقل، مثلا، أن يحصل تلميذ على شهادة الباكالوريا شعبة الآداب دون أن يكون قد درس بعمق شعر أبي العلاء المعرّي وأدبه، وخاصّة منه « رسالة الغفران »، وما تحتويه من دعوة صريحة إلى التفكير وإعمال العقل في المُسلّمات العقائديّة؟

هؤلاء سيلقون طبعا صعوبات جمّة في دراستهم الجامعية، وسيُشار إليهم بالبنان باسم « باكالوريا الكورونا ». إلا أنهم في واقع الأمر ضحايا الكورونا وضحايا الحكومة أيضا، حكومة ضعيفة، مرتعشة، مضطربة، تتخبّط في مشكلة شرعيّتها على حساب الصحّة والتعليم، المجالين اللذين ضحّت من أجلهما أجيال ليكونا محلّ فخر التونسيين منذ الاستقلال إلى حدود بداية العشرية الثانية من هذا القرن

بقلم منير الشرفي