الدكتورة جليلة الطريطر تكشف معطيات خطيرة حول شكري المبخوت وجائزة الملك فيصل

كنا قد أوردنا نصا طويلا كتبه الدكتور المنجي الكعبي الذي شكك في جائزة الملك فيصل التي نالها شكري المبخوت وها ان الدكتورة جليلة الطريطر المختصة في نقد أدب الذات تورد دراسة أكاديمية تكشف عن معطيات خطيرة وصادمة حول الجائزة المذكورة وشكري المبخوت نفسه ولكي نحافظ على عنصر التشويق نترك القراء يكشفون ماتوصلت إليه الدكتورة الطريطر
ونظرا لطول المقال فقد قمنا بتقسيمه على حلقات سنوافيكم بباقي النص في قادم الأيام فتابعونا علما وأننا حافظنا في المتن على العنوان الأصلي للدراسة وهو

شكري المبخوت ناقدا للسّيرة الذّاتيّة في ميزان العلم

تسألونني ما ميزان العلماء ؟ « أجيبكم بأنّه أخلاق العلماء، أوّلها التّواضع وآخرها الأمانة » جليلة الطريطر

شكري المبخوت جامعيّ تونسيّ أضحى منذ بضع سنوات على الصعيدين الإعلاميّ و المعرفيّ شخصيّة تبعث على التّفكير و التّساؤل، فقد تعدّدت في سرعة شبه أسطوريّة وجوه بروزه، و تنوّعت مجالات حراكه . بدأ مسيرته العلميّة مهتمّا بنقد الأدب منجزا بعض الدّراسات الّتي واكبت في زمنها بعض قضايا النّقد الأدبي العربيّة في التّسعينات بما فيها مسألة السيرة الذّاتيّة ، و لكنّ الباحث غيّر فيما بعد وجهته المعرفيّة إلى الاهتمام المركّز بالنّقد اللّغوي و البلاغيّ حتّى أصبح عنوان اختصاصه في سياقه الجامعيّ. و تتمثّل النّقلة النّوعيّة الأولى الّتي استفاق عليها الوسط الجامعيّ و الثّقافيّ التّونسيّ في تتويج المبخوت بجائزة بوكر للرواية(2015) عن رواية أولى تصدر له عنوانها الطلياني. و لئن قوبل هذا التّتويج لدى بعض الموالين للمبخوت بالتهليل والتّرحيب لأنّ فوزه مثّل لديهم تتويجا لتونس؟!، فالسّؤال الرّئيس ظلّ معلّقا بلا جواب : كيف تمّت هذه النّقلة النوعيّة الحاسمة الأولى في ظلّ انعدام كليّ لممارسات أدبيّة سرديّة انتقاليّة تفسّر هذا النّجاح، و الحال أنّ الكتابة الإبداعيّة أبعد ما يكون لدى العارفين عن كونها « نورا يقذفه اللّه في القلم » فالرّوائيون الأفذاذ حبّروا آلاف الأوراق من أجل صقل مواهبهم بل و تفرّغوا لمحنة الإبداع كلّ التّفرّغ. و لطالما أنّ المسألة في هذه الحالة إبداعيّة صرفة فهي مرتهنة بغضّ النّظر عن قيمتها الفنيّة الحقيقيّة بدواليب سوق القراءة الإبداعيّة الحرّة، فحيثيّات الإبداع لا تهمّ القارئ بقدر ما يهمّه النصّ في ذاته و بذاته، لذلك ليس أمام المبخوت روائيا غير التّحدّي الزّمني أو غرباله النّعيميّ و لا شيء غير ذلك

أمّا النّقلة النّوعيّة الثّانية و هي في رأينا الأعجب بكثير، فهي استفاقتنا الثّانيّة بعد سنتين بالكاد من تشكّل المسار الإبداعيّ المبهر على تتويج جديد( جائزة الملك فيصل في الأدب لسنة 2018) ينصّب المبخوت ناقدا عربيّا طلائعيا في اختصاص علميّ دقيق هو نقد السّيرة الذّاتيّة. هذه المرّة أيضا لم يخل الأمر من تهليل و تهريج فيسبوكيّ، فقد استقبل الأمر في »تونس » لدى بعض الأطراف بالأريحيّة نفسها لا لشيء إلاّ تعزيزا للامتياز التّونسيّ الّذي بات أمره وا عجباه في يد شكري المبخوت بامتياز؟ و لكنّ الأوساط الثّقافيّة العربيّة المختصّة ولا سيّما منها الوسط الجامعيّ المغربيّ ، قد أعربت عن كبير استيائها ممّا آلت إليه نتيجة جائزة الملك فيصل في فرعها الخاصّ بالأدب لهذه السّنة من إخلال كبير بموازين العلم الصّحيحة في مجال لا يمثّل فيه المبخوت أيّ قيمة تذكر. ما يثير الغرابة أكثر أنّ هذا الخبر الجليل المبهج بذاته! لا يقدّم أيضا أيّ تفسير للوسط الجامعيّ المختصّ كيف تمّت هذه النّقلة المعرفيّة العملاقة في مجال غادره المبخوت منذ عقود( بداية التّسعينات) بعد العمل البادئ المشار اليه أعلاه ، بل و لا نعرف له فيه إضافات متداولة تذكر في دورة سوق النّقد الجامعيّة تدارسها أهل الدّار، أو أدلوا فيه بدلوهم إن بالقبول و الاستحسان أو بالنّقد و التّجريح، فهل أصبح الإنتاج المعرفيّ العلميّ في هذا الزّمن خاضعا هو الآخر للوحي المباغت و العمل في السرّ المطلق؟ :  من المفروض أنّ الأعمال التي تكرّم تكون قد استقرّت لدى المختصين باعتبارها تمثّل إضافة حقيقيّة

لئن سلّمنا بوحي الإبداع فهل سنسلّم هذه المرّة اضطرارا بوحي العلم الذّي يبدو لنا اليوم أن بعض الجوائز العربيّة الكبرى لا تعيره قيمة تذكر في تقييم المترشّحين، بما يشي بأنّنا نعيش على هذا المستوى أيضا منعرجا استثنائيا لا عهد للعلم و لا لأهله به لا يقلّ غرابة عن منعرجات خطيرة أخرى أصبح يشهدها الوضع التّاريخيّ العربيّ المعاصر. لقد تبيّنا أنّ المنجز السّيرذاتيّ النّقدي للمبخوت الأخير هو كتابان كتبا بفارق زمنيّ قياسيّ لا يتجاوز السّنة الواحدة(2016/2017) الّتي تفصله عن موعد المشاركة في سباق الجائزة المحموم، أضف إلى ذلك محدوديّة انتشار الكتابين و تداولهما في السّوق و بخاصّة الكتاب الثّاني منهما فهو تقريبا مجهول تماما في المكتبات التّونسيّة ، فما بالك بالخارجيّة منها، فكيف للمختصّين أن يطّلعوا عليه هنا و هناك بما يكفل حصول ترسّبات نقديّة يمكن الاطمئنان إلى جدّيتها؟ عنوان الأوّل أحفاد سارق النّار، في السّيرة الذّاتيّة الفكريّة ، أمّا الثّاني فهو الزّعيم و ظلاله، السيرة الذّاتيّة في تونس .
وإنّنا لنريد من موقعنا البحثيّ الجامعيّ المسؤول و التزامنا بهذا الاختصاص طوال حوالي ثلاثين سنة أن نقيّم هذا العطاء النّقدي تقييما علميا موضوعيا هادئا لا يحفل بالتهليل الأجوف، و لا يهتمّ بما تسمّيه بعض الأقلام الجامعيّة غيرالمسؤولة ب « نجوميّة المبخوت العلميّة » و نجاحه في تحويل الإنسانيّات إلى مجال  للاستثمار المادّي بما يجعله قدوة لشباب معطّل عن العمل فاقد للأمل

إنّ المسألة العلميّة مسألة منوطة بالمسؤوليّة الثّقافيّة و مصداقيّة تطوّر المعرفة وفق أصولها المعلومة الّتي تحصّنها من السّقوط في العبث، فضلا عن كونها بالأساس مسألة اختصاص، فمداخل العلم مرتهنة بممثّلي أنساقه المختلفة، لذلك فكلّ نصّ علميّ لا يزكّى حقيقة إلاّ بدخوله النّسق من بابه الكبير المتمثّل في استيعاب شروطه المعرفيّة و البرهنة على القدرة على التّموقع الموضوعيّ فيها، و توظيفها توظيفا علميا دقيقا، و هو أمر لا يتلاءم مطلقا مع التّسريع المباغت في إنتاج المعرفة، و لا يحصل إلاّ تدريجيا في ظلّ حوار صحيّ مع ممثّلي أعلام الاختصاص و اطّلاعهم على كلّ ما ينتج فيه من أجل تحقيق تطوّر في منظومة البحث لا يكون إلاّ نسبيا، و ذلك وفق مبدإ التّرابط العضوي بين الإضافة الحقيقيّة و التّراكم المعرفيّ داخل الاختصاص الواحد

السّؤال الوحيد الّذي لا يمكنه أن يكون مباغتا في سياق ميزان العلم هو ماذا أضاف كتابا المبخوت الجديدان إلى سياقهما المعرفيّ؟ و كيف حاورا و تحاورا مع المنجز النّقدي السّيرذاتيّ العربيّ و التّونسيّ؟ خصوصا و قد جاء في تصريح المبخوت افتخاره ب »الانتماء إلى مدرسة تونسيّة نقديّة قويّة »، و هي شهادة قيّمة في ذاتها، لا غبار عليها في الظاهر، ولكنّها تتطلّب بالخصوص الوفاء لمقتضياتها أيضا

نذكّر بدءا بأنّ النصّ النّقدي الأوّل الّذي دشّن به الباحث دخوله حقل النّقد السّيرذاتيّ هو سيرة الغائب سيرة الآتي، السيرة الذّاتّية في كتاب الأيام لطه حسين. هذا النصّ هو عبارة عن دراسة تحليليّة نقديّة لأيّام طه حسين أنجز في سياق جامعيّ تونسيّ كان يشهد بداية اهتمام بنقد جنينيّ للسيرة الذّاتيّة من خلال رسائل بحث أوليّة تنجز بإشراف أساتذة الجامعة، فضلا عن دروس التّبريز الّتـي كان يلقيها المرحوم المنجي الشملي في الموضوع منذ الثّمانينات أو ما قبلها بقليل. و إليه يعود فضل التنبيه إلى الفراغ النّقدي المتّصل بهذا الحقل و هي شهادة اعتراف نذكرها للتّاريخ فمن لا ماضي له لا مستقبل له. و ليس غرضنا ها هنا أن نقيّم ما جاء في هذا الكتيّب الأوّل، فقد أحلنا عليه في أطروحتنا » مقوّمات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث » و ناقشنا منهجه و رؤيته البحثيّة و لم نتغاض عن إسهامه النسبيّ في طرح في ما يتعلّق بهذا المبحث. و إذ نعود إليه اليوم نقول إنّه كان يمثّل اجتهادا مشروطا بمرحلته و مستواه ، و لكنّه ظل إلى حدود 2016 يتيما في عطاء مؤلفه

السؤال الّذي يعنينا اليوم هو ماذا أضاف الكتابان اللّاحقان إلى هذا الكتيّب الأوّل و بالقياس إلى ما تراكم من منجز نقديّ سيرذاتيّ ما بعديّ منهجيا و معرفيا؟ الإجابة عن هذا السؤال هي الكفيلة بأن تدلّنا على حقيقة صمت المؤلّف في هذا الموضوع طيلة أكثر من عقدين من الزّمن. بل و انصرافه عنه تماما إلى التخصّص في اللّغويّات. لذا نبدأ باستعراض ما جاء في كلّ من الكتابين أوّلا بثان استعراضا يقوم على التّعريف بالمادّة المعروضة ثمّ إخضاعها للتحليل و النّقد بالاعتماد على مساءلة مرجعيّاتها النّظريّة البيبليوغرافيّة و آفاقها المعرفيّة المنهجيّة و الاصطلاحيّة و اخيرا مدى توفيقها في الانتهاء إلى قراءة نقديّة مقنعة و متجانسة تقدّم أجوبة جديرة بالتدبّر فيما يتعلّق بالقضايا المطروحة في مجالها

(☆) جليلة الطريطر

أستاذة نقد أدب الذّات، جامعة تونس 1/ كليّة العلوم الإنسانيّة و الاجتماعيّة 9 افريل