ارتفعت بعض الأصوات هذا الأسبوع للتعبير عن تخوّفات من جمع السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بين يدي شخص واحد، رئيس الجمهورية. ولقد عبّر عن ذلك بالخصوص بعض قياديي حركة النهضة الإخوانية الإسلامية وبعض قياديي اليسار أيضا
هي مبدئيّا كلمة حق. إذ أن جمع السلطات في يد شخص واحد لا يقع إلى في نظام رئاسوي كلياني مُتسلّط. والتخوّفات تبدو، مبدئيّا أيضا، مشروعة. ذلك أن الحاكم المُتسلّط يُمكن أن ننتظر منه كل التجاوزات الممكنة من فساد مالي ومن اعتداءات على الحريات، وخاصّة منها حرية الإعلام
غير أن المُتأمّل في مصادر هذا الطرح يجد أنها مُتأتية في الواقع من جانب واحد، وهو المتمثّل في اليمين المُتطرّف وفي جزء من اليسار الذي عوّدنا على المواقف التي تخدم مصلحة الإسلام السياسي. أي أن تلك المصادر إنما هي تُمثّل موضوعيّا طرفا سياسيّا واحدا. ولنا في التاريخ القريب عدّة أمثلة في التقارب بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، من ذلك مطالبتهما جنبا إلى جنب في اعتصام القصبة في فيفري 2011 بمجلس تأسيسي.{ ذلك الموقف المشترك الذي نعاني منه إلى اليوم
لنتأمّل في ما إذا كانت كلمة الحق هذه قد أُريد بها حقُ أم باطل
في حقيقة الأمر، إن ما ترفضه هذه الفئة ليس مبدأ احتكار السلط وإنما هي ترفض أن يتغيّر هذا الاحتكار من يد إلى أخرى
ألم يكن راشد الغنوشي مُحتكرا للسلطات الثلاث؟ فهو رئيس مجلس النواب، وقد حوّل المجلس إلى هيئة تخدم حصرا توجّهات حركة النهضة الإخوانية والتزاماتها الدولية، ويكفي في هذا الصدد التذكير بتمرير اتفاقية العار التي أراد بها بيع استقلال تونس وسيادتها إلى حليفه القطري الذي يدين له بالوصول إلى ذلك المنصب حسبما جاء في تقرير محكمة المحاسبات. وهو رئيس السلطة التنفيذية بعد أن اشترى ذمّة رئيس الحكومة، الله أعلم إن كان ذلك بوسائل الترغيب أو الترهيب، فأصبح المشيشي مُطيعا له بشكل كاريكاتوري، وهو ما تجلّى بالخصوص في معاملة الأمن مع المعارضين وفي التعيينات المشبوهة في المناصب الحسّاسة حتى أن الغنوشي أصبح يعتقد أن الأمن بات « مضمونا ». وهو الذي مسك بالجزء الذي يهمّه من السلطة القضائية، ذلك الجزء الذي أخفى أخطر الملفات التي تحمل شبهات كبيرة في تورّطه في عدّة قضايا تخصّ أساسا تفشّي الإرهاب في تونس، تحدّثت عنها بإطناب، وبالأدلّة والوثائق، هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي
فالسلط الثلاث كانت إذن في السنوات الأخيرة، وخاصّة في الأشهر الأخيرة مُحتَكرة من قبل رجل واحد، راشد الغنوشي. والمعارضة الشرسة التي يُبديها الإخوان المسلمون وجزء من اليسار لقرارات رئيس الجمهورية تبدو وكأنها ليست ضد احتكار السلطة وإنما ضد تغيير الاحتكار من يد إلى أخرى
وإذا استثنينا بعض القياديين من حركة النهضة الذين أبدوا « تفهّما » للوضع الجديد وقدّموا علنا انتقادات واضحة لقيادة الحزب، وإذا استثنينا أيضا بعض أساتذة القانون المتشبّثين بالنص الحرفي للدستور دون الاعتماد على قراءة مرِنة تأخذ في الاعتبار الوضع السياسي المنخرم والذي يستوجب حلولا سياسيّة، فإننا لا نجد من السياسيين الذين يُصرّون على اعتبار ما حدث يوم 25 جويلية انقلابا على الشرعية إلا قيادة حركة النهضة وقيادات يسارية تقليديةهذا التحالف الموضوعي غير المُعلن يُحيلنا إلى تحالف شبيه وهو المُسمّى ب : حركة 18 أكتوبر
للتذكير فإن هذه الحركة نشأت إثر اضراب جوع نظّمه في البداية ثمانية معارضين قبل أيام من انعقاد القمة العالمية لمجتمع المعلومات في نوفمبر 2005 بتونس لتحسيس الرأي العالمي بالأوضاع السيّئة للحريّات في تونس. وقد شارك في اضراب الجوع عن اليسار أحمد نجيب الشابي وحمّة الهمامي والعياشي الهمامي والمختار اليحياوي، وعن الإسلاميين سمير ديلو ورؤوف العيادي ومحمد النوري ولطفي الحاجي. ثمّ انضم إلى الحركة عدد من الأحزاب، نذكر منها بالخصوص المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتّل
هذه الحركة مثّلت تحوّلا هامّا في المعارضة السياسية التونسية وسجّلت انحرافا في الحركة اليسارية وفي الحركة الديمقراطية عموما. فالتقدميّون كانوا دائما يعتبرون الإسلام السياسي خطيرا على البلاد وأن حركة النهضة هي حزب مُتطرّف وعنيف يجب مقاومته. غير أن أطرافا من المحسوبين على التقدّميين قبلت بالتعامل جنبا إلى جنب مع الإسلاميين، وأعطتهم بذلك « شرعية » الانتساب إلى المعارضة. والنتيجة هي أن « حركة 18 أكتوبر » كانت انطلاقة تحالف موضوعي غير معلن بين اليمين المتطرّف وشق من اليسار. وائتلاف الترويكا في المجلس التأسيسي وفي حكومتي الجبالي والعريض كان نتيجة لذلك التحالف، إذ ضمّ حركة النهضة وحزب المؤتمر والتكتل
سبر الآراء الذي صدر عن مؤسسة إيمرود يوم الجمعة الماضي يقول بأن 87% من التونسيين يُساندون الإجراءات الرئاسية. البقية (13%) يُمكن توزيعهم منطقيا بين من يرفضون انتقال السلطة الكاملة من الغنوشي إلى سعيّد (النهضويّون والجزء المتحالف معهم موضوعيّا من اليسار)، إضافة إلى بعض نساء ورجال القانون المُتمسّكين بالنص الحرفي للدستور، وبالإضافة بالخصوص إلى المُتخوّفين من بقيّة مسار هذا التحوّل التصحيحي
وبخصوص هؤلاء الأخيرين، أرى أنه على الرئيس قيس سعيّد أن يُعجّل في رسم خارطة طريق واضحة للفترة القادمة والإعلان عنها لقطع الطريق أمام العودة الممكنة لحركة 18 أكتوبر جديدة يُهيمن عليها الغنوشي من جديد، ولطمأنة المُشكّكين حول مصير الحركة التصحيحية حتّى يتأكّدوا من أن دولة القانون والمؤسسات هي هدفها القريب
بقلم منير الشرفي