تململ وسط «المساندين النقديين» للرئيس وقلق والتقاط أنفاس لدى الخصوم

* تواصل تكتم ساكن قرطاج عن تفاصيل برنامجه أصبح مؤرقا ومثيرا للقلق ومهدّدا للاستقرار الذي يبحث عنه التونسيون وأشقاؤهم وأصدقاؤهم وشركاؤهم
* إن غض الطرف عن أطروحات الاتحاد العام التونسي للشغل وهو أحد أبرز « المساندين النقديين » للرئيس قد يكون خيارا محفوفا بالمخاطر بالعودة إلى دروس التاريخ على الأقل

 

*****

«الديمقراطية في تونس خيار لا رجعة فيه ولا تراجع عنه، وأن حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية مضمونة ومصانة… لم يتم المساس بأي شكل من الأشكال بحرية التعبير وحرية التنظم… على غير ما يتم الترويج له من قبل بعض الأطراف».. بهذه العبارات وغيرها من الجمل المستعارة أيضا من قاموس رئيس الجمهورية، سعى وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج أول أمس إلى طمأنة «الخارج» في كلمته التي ألقاها في اجتماع لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة

هو سعي محمود ومنشود لكنّه قد لا يشبع السامعين – في الداخل والخارج على حدّ سواء – بما أننا أصبحنا نلمس من يوم إلى آخر تململا في أوساط المساندين في المطلق و«المساندين النقديين» بالخصوص للرئيس، وقلقا في أوساط «الشعب»، وفسحة التقاط أنفاس بالنسبة إلى الخصوم والرافضين لما حصل في 25 جويلية 2021

المسألة لا تحتاج إلى التنجيم، وليس من مصلحة البلاد والعباد اليوم استمرار حالة الترقب والغموض، صحيح أن الرجّة النفسية كانت مهمّة وحاسمة في كسب تأييد لفيف هام من الشعب التونسي للخطوة التي أقدم عليها رئيس الجمهورية بإقالة رئيس الحكومة وتعليق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نواب الشعب وإعلان الحرب على الفساد والاحتكار وتحجيم حضور حركة النهضة الإسلامية ورئيسها بالخصوص في المشهدية، لكن تواصل تكتم ساكن قرطاج عن تفاصيل برنامجه – إن كان له برنامج بطبيعة الحال – أصبح مؤرقا ومثيرا للقلق ومهدّدا للاستقرار الذي يبحث عنه التونسيون وأشقاؤهم وأصدقاؤهم وشركاؤهم

وفي هذا السياق ثمة مؤشرات ومعطيات موضوعية لا يمكن التغافل عنها أو الاستهانة بمعانيها ودلالاتها وأولها ما كشفته استطلاعات الرأي المنجز في الفترة الماضية

الاستفادة من الدروس

إن التحفظات على عمليات سبر الآراء كثيرة، لكن عندما نسجّل «خسارة» الرئيس قيس سعيد لحوالي عشر نقاط بين منتصف أوت ونهايته في علاقة بموقف التونسيين وموقفهم من التصويت في انتخابات رئاسية واردة فهذا واقع لا مناص من التفاعل معه وأخذه بعين الاعتبار

لقد كان بإمكان قيس سعيد الفوز بالرئاسية من الدور الأول بنسبة 91 بالمائة وفق سيغما كونساي في 13 أوت 2021 وأصبح الأمر ممكنا مع أمرود كونسيلتنغ يوم الفاتح من سبتمبر بنسبة 82 بالمائة فقط ولا غرابة أن تنحدر هذه النسبة في أي سبر يُنظم هذه الايام بما أننا اعتدنا على تناغم كبير بين النتائج والمزاج الشعبي العام

وليس عسيرا اكتشاف بداية القلق في اوساط «أنصار» قيس سعيد نفسه من خلال الشارع وحتى من خلال الصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك الأمر للقوى المدنية والسياسية التي كانت داعمة للرئيس مثلما لمسنا ذلك في موقف التيار الديمقراطي المتغير 180 درجة، وحتى حركة الشعب بدأ الاختلاف يشبّ داخلها بخصوص الموقف من الاختيارات الرئاسية في هذا الظرف الدقيق وهو ما كشفته تصريحات خالد الكريشي ومحمد المسليني على سبيل الذكر لا الحصر

القلق الأكثر مدعاة للقلق إن جاز القول، هو في صفوف «المساندين النقديين» للرئيس أي أولئك الذين أيّدوا خطوته في 25 جويلية وراهنوا على برنامج الرئيس ومدّوا أيديهم التي ما تزال معلّقة الى اليوم في ظل تكتم وصمت كي لا نقول لا مبالاة من قرطاج فالرئيس يتحدث عن كل شيء دون تدقيق شيء، يراهن على الصادقين ويلفظ المنافقين لكنه لا يكشف الأسماء الى الآن ويكتفي بالقول كما حصل اول أمس في حضرة رجال القانون : ما نتكلمش مع السرّاق اللي نكّلوا بالشعب.. قالوا حيرة.. مناش في حيرة… لاخر ماشي لشركة لوبيينغ وعقد بثلاثة مليارات ضد الدولة التونسية.. منيش منهم.. قلتها مرارا وأعيدها.. أنا زاهد في الدنيا ولست زاهدا في الدولة التونسية

هكذا يترك الرئيس الباب مفتوحا للتأويلات والاستنتاجات في ما يتصل بتحديد الخصوم وكشف وجوههم، وفي نفس الوقت يغذّي الغموض في ما يهم برنامج العمل أو خارطة الطريق أو ترتيبات المرحلة

رئيس الحكومة والحكومة الجديدة برمتها في علم الغيب، توقيت إعلانها ودخولها الخدمة مجهول، مصير نواب الشعب والبرلمان «القائم» المنبثق عن انتخابات 2019 غير واضح لدينا على الأقل، دون أن ننسى الملفات الاقتصادية والاجتماعية والاتفاقات المبرمة أو المنتظرة مع الأطراف الاجتماعية، اتحاد الشغل واتحاد الأعراف، وميزانية العام الجاري وميزانية 2022 وخصوصا العلاقات مع شركائنا من المؤسسات الدولية المالية والقوى النافذة في العالم وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي والإدارة الأمريكية التي تحرص كما هو معلوم على «مقومات الديمقراطية» و«الحريات» و«حقوق الانسان»

اللعب بالنار

إن غض الطرف عن أطروحات الاتحاد العام التونسي للشغل وهو أحد أبرز «المساندين النقديين» للرئيس قد يكون خيارا محفوفا بالمخاطر بالعودة إلى دروس التاريخ على الأقل وليس بالضرورة دروس الجغرافيا أضف إليه موقف عديد الأحزاب البرلمانية وغير البرلمانية كالتيار الشعبي وحركة تونس إلى الأمام

وليس من مصلحة أحد عدم التوقف عند كلام الأمين العام للاتحاد حين يقول «اذا توجهتم في الخيار الوطني ستجدوننا جنودا في الصفوف الأمامية من اجل مناعة ومكانة هذا الوطن وإذا أردتم الحياد بمسار الدولة المدنية الديمقراطية الاجتماعية التي نتقاسم فيها الاعباء والخيرات فإنّ المنظمة موجودة ومتعودة على الازمات والمعارك» ويضيف متوجها لرئيس الجمهورية حسب فهمنا : هات رؤيتك لنحكم عليها إن كانت واضحة الأهداف ودون ضبابية فنحن في الاتحاد لن نعارضها

أما من يصنّفون بخصوم الرئيس – وهم بالمفهوم الديمقراطي شرط الحديث عن الديمقراطية ولو المتعثّرة – ففي مواقفهم كثير من التقاطع الآن مع طيف لايستهان به من الشارع التونسي صاحب المزاج الخاص والذي لا يحتمل الانتظار

صحيح مرة أخرى أن حسم ملف الإسلام السياسي ودور حركة النهضة بات في شبه المؤكد ونفس الأمر بالنسبة إلى نواب الشعب بمن فيهم من يتحدث اليوم عن سحب الثقة من رئيس البرلمان وعودة الشرعية، لكن أصواتا مدنية وسياسية ترتفع اليوم وتكسب نقاطا من الشرعية والمشروعية ومن إنصاف الشارع والرأي العام وهي تدغدغ الخارج ايضا، وقد بدأت في تجذير أطروحاتها وتفعيل نشاطها الذي قد يكون من السابق لأوانه الحديث عن أثره وتأثيره لكنه فعل محمود في المحصلة بالمنطق الديمقراطي

هنا بادرت أحزاب الجمهوري والتكتل وآفاق وأمل والتيار الديمقراطي بإصدار بيان مشترك للتعبير عن الرفض المطلق لكل دعوات تعليق الدستور ومطالبةً رئيس الجمهورية بالالتزام بتعهداته للتونسيات والتونسيين باحترام الدستور و باليمين التي أداها قبل تولي مهامه على رأس الدولة

وقبل ذلك، اعتبر حزب العمال أن ما يحدث اليوم «عملية خطيرة تفتح الباب للاستفراد التام بالسلطة والالتفاف على تطلعات الشعب ومكاسبه بما فيها التي حملها دستور 2014» ودعا إلى توحيد الجهود للتصدي لأي ترتيبات محلية وإقليمية ودولية تهدف سواء إلى العودة إلى ما قبل 25 جويلية 2021 أو إلى ما قبل 14 جانفي 2011
إن الوقت ينفد لكن الإنقاذ ما يزال ممكنا على قاعدة الثوابت والمنجز الذي تحقق للتونسيين على مرّ العقود وفي صورة البقاء في نفس «المحطة» والتردد في مغادرتها وتحديد الوجهة الصائبة فحينها يمكن القول أننا دخلنا مرحلة بدء العد العكسي لـ : الخروج من عنق الزجاجة

بقلم: مراد علالة